ملّاحات أنفة، تلك التي تدّرس في مناهج الجغرافيا قد تختفي قريباً من على شاطئ شمال لبنان. فمشاريع المنتجعات السياحية والملح المصري يقضيان على حرفة تراثية عُدّت جزءاً من الإرث الثقافي
أنفة ــ رحاب نصر
تدور مروحة الهواء وحيدةً على شاطئ أنفة، بعدما توقفت آلاف المراوح الأخرى عن الدوران، وباتت أجران المياه جافة تكسوها الأعشاب البرية. هذا هو المشهد في عاصمة الملح، أنفة، التي كانت الملاحات فيها، نموذجاً للمحافظة على البيئة والتنمية الاقتصادية والسياحية الآخذة في الاندثار لأسباب عدّة أولها الطمع في استثمار الشاطئ كمنتجعات سياحية تدر الربح السريع. فأصحاب العقارات الخاصة يفضّلون تأجير الأرض بأسعار عالية جداً لشركات خاصة تشيّد المنتجعات فوقها وتستثمرها خلال موسم الصيف. وأراضي وقف دير الناطور، التي كان يستأجرها سنوياً أصحاب الملاحات بأسعار زهيدة، باتت تُسترجع اليوم من الأهالي، ويجري الحديث عن بيعها أو تأجيرها لتشييد مشروع سياحي ضخم.
وسيكون هذا المشروع بمثابة «الضربة القاضية» لهذه الحرفة، وللواجهة البحرية التي تجاور دير سيدة الناطور.
العقارات التي تجاور الدير هي المشهد المعروف لملاحات أنفة، فصور المراوح والأجران المليئة بالمياه هي لتلك البقعة التي تفصل الدير عن المدينة، والتي باتت جزءاً من الذاكرة الجماعية اللبنانية، وشاهداً على حرفة تراثية مهدّدة. فخلال السنين الماضية أدّى ابتلاع المنتجعات السياحية لأراضي الملاحات إلى تضاؤل كبير في الإنتاج، وارتفاع كلفة مواد ترميم أجران الملّاحات، التي ترتكز على الفيول، دفع بعجلة القضاء على المهنة، التي كان فتح باب الاستيراد للملح المصري قد أوصل أصحابها إلى خسائر مادية عالية، ما اضطرهم إلى ترك الحرفة، الإرث، الذي كانت تتميز به البلدة.
فمحصول ما بقي من ملاحات لم يعد يكفي الاستهلاك المحلي لمدينة أنفة. ويشرح مختار البلدة، فاروق خباز، أنه منذ القدم انتشرت الملّاحات على طول الشاطئ الشمالي، ولا سيما في بلدتي أنفه والقلمون، حيث نشأت الملّاحات انطلاقاً من جور صخرية طبيعية، اكتشف الأهالي أنها تحفظ الملح بعد تبخّر المياه، فاستثمروا ذلك بعدما أدركوا أهمية الملح كسلعة. وأتاح انتشار الصخور على طول الواجهة البحرية للبلدة إنتاج الملح بكميات ضخمة، فعُرفت أنفة في ستينات القرن الماضي وسبعيناته «بعاصمة الملح»، وبات منظر الملاحات وهي تدور من الصور السياحية المعروفة للبنان.
يروي ميشال دعبول، صاحب إحدى الملاحات كيف تطورت مهنة استخراج الملح خلال الخمسين سنة الماضية، فيقول: «الخطوة الأولى هي إعداد الأحواض عبر تنظيف أرضيّتها، ثم تزفيت التشققات التي تحدث فيها عبر السنين، وتغطية الإسفلت بالقماش كي لا يتسرّب الماء منه. بعد ذلك تُشفط المياه من البحر وتُنقَل إلى خزان ماء كبير يسمّى «الغبّيط»، وتنقل في ما بعد إلى الأحواض عبر القساطل، وتسمّى هذه الخطوة الريّ.
وحين تمتلئ الأحواض بالمياه، تُترك مدة 40 يوماً كي تتبخّر المياه منها تحت أشعة الشمس، وتظهر طبقة بلّورية رقيقة هي الملح، يحين حينها موسم «القطاف». يُعدّ هذا الملح من أجود الأنواع وأنقاها وأغناها بالإيودين والصوديوم. وهو ذو جودة عالية، أي كما هو معروف بلغة التجار، باب أول».
يكمل: «تطورت زراعة الملح من الجرن الصخري إلى الحوض الإسمنتي، ومن نقل المياه بواسطة الدلو الصغير إلى محرّك كهربائي يضخ المياه مباشرةً إلى خزان الماء». لا تفارق الحسرة دعبول، ولكن في مقابل هذا التطوّر الصناعي، شهدت هذه العملية تراجعاّ كبيراً، ففيما كانت تمثّل مصدراً أساسياً لدخل العائلات في أنفة أصبحت مهنة خاسرة بسبب اليد العاملة الباهظة، والملح الأجنبي الذي يغزو الأسواق اللبنانية بأسعار بخسة تكاد لا توازي سعر الكلفة، إضافةً إلى عدم اهتمام الدولة بهذه الزراعة الحرفة.
أمّا كريم عيسى، صاحب مؤسسة عيسى لإنتاج الملح، فيخبرنا عن توقفهم عن استثمار الملّاحات إلّا في قسم ضئيل منها لعدم قدرة الملح المحلي على المنافسة بعد فتح باب الاستيراد منذ 15سنة، بحيث يصل طنّ الملح المصري إلى الأسواق اللبنانية بسعر لا يتعدى 35 دولاراً، بينما تبلغ كلفة طن الملح المحلي 60 دولاراً. وبذلك، «نقع في عجز في ظل غياب الدعم للإنتاج المحلي. لذا، باتت المهنة تنحصر في إعادة تكرير الملح المصري وبيعه في الأسواق».
تراث أنفة المرتبط بالملّاحات والملح مهدّد، بعدما تحوّل هذا المورد الاقتصادي إلى خسارة دائمة.
وبذلك خسرت البلدة تراثها الحي المتفاعل في تطورها وفي حياتها الاقتصادية والاجتماعية. ويبقى الخوف الأكبر من أن تتحول هذه الملّاحات إلى معالم أثرية، كما تحوّلت العديد من الزراعات والصناعات في لبنان إلى حرف تقليدية لا يجري التحدّث عنها إلا في المعارض التراثية. وقد تكون هذه العملية بدأت بعدما عملت الجمعيات المحلية على المحافظة على مروحة واحدة كشاهد على تراث محلي في طور الاندثار النهائي، ما لم تتدخّل السلطات المختصة لإنقاذه بسرعة.