أسعد ذبيانيجلس بيض النمل إلى جانبي. مضى وقت لم أره فيه. وبيض النمل في اللغة، مازن. هو أوّل من عرفني على محمود درويش وغسان كنفاني. لا أعرف عن عالم النمل كثيراً. لكنّ لمازن في عالمي تأثيراً كبيراً. على نغمات عوده الذي داعبته الرياح وستارة الشرفة، كتبت أجمل قصائدي.
يخبرني عن نيتشه وإريك فروم، يخبرني أن للإنسان طريقين في إثبات الوجود، الأول اعتماده على الامتلاك (سفر، مناصب، مال، نساء، سيارات، مقتنيات...) ليثبت لنفسه ثم للآخرين أنه موجود. النوع الثاني هو من يعرف نفسه.
يخبرني عن فتية أكراد ينتزعون الألغام عن الحدود السورية التركية ليقتاتوا. لم يعد اللغم وسيلة للموت بل الحياة. تنفجر بعض الألغام بالصبية، تقطع بعض الأيادي والأرجل لكنهم يستمرون في «حصادها». يفككون الألغام ليستخرجوا منها الكبريت، يبيعونه كسمٍّ للفئران. يبيعون ما بقي من حديد كخردة. تحتج الحكومة التركية، فترسل برقية لنظيرتها السورية مستنكرةً التعرّض لهيبة الدولة!
يخبرني عن سودانيين معتقلين في سجن جزين لدخولهم الأراضي اللبنانية بطريقة غير شرعية. كان يقتضي ترحيلهم بعد ثلاثة شهور من السجن إلى بلدهم (بحسب القانون). الخزينة مفلسة، فيبقون أعواماً.
أفكر بهم، أفكر بنفسي. أفكر بالنرجيلة في فم الفتاة التي تجلس أمامي، أفكر بصديريتها الزهريّة اللون، أفكر بإمكانية وجود الله. أراقب يد الرجل تلاعب شعرها، أفكر في امرأتي الأولى فالثانية. تصلني رسالة. أكمل المقالة.
يغمرني فرح لأن بيض النمل موجود، أرثي مغمضي العينين (وأنا منهم في غالب الأيام). أفكر في جهنم الجهل ونعيم المعرفة. أفكر في المليون شهيد في الجزائر وغاندي في الهند (كان يناقشني مازن أنّ اللاعنف وسيلة أنجع، وأعدد له الفوارق بين العقليتين الإنكليزية والفرنسية، بين خوف بريطانيا من مليار هندي، ونظرية ديغول أنّ الجزائر جزءٌ من الأراضي الفرنسية).
يعلمني أن أكتشف ماذا أحب لأنعم بالسلام. أنتظر الحافلة لتقلني إلى بيتي. أفكر بالذين يرقصون في الطابق العلوي من المقهى، ويركبون الـH2 والـZ3 والـX5 بعد نهاية الحفل. أفكر في صديقتي السابقة التي لم تعد تثير ضربات قلبي وتراقص الآن غيري. كنتُ أظن أنني لن أشفى من حبها. هي أكدت أنها لن تنساني أبداً. ابتسم. يخطف عيني مشهد السيدة التي تلعب بشعرها. تسلم عليّ صبيّة تريدني أن أكتب قصيدة عن الوشم على ظهرها، وأريدها أن تقبّل خدي، نختلف على من يذعن أولاً.
يتدخّل النادل ليقرأ ما أكتب، أحجب أوراقي. كلنا نخفي أوراقنا، نخاف من خسارة اللعبة. كلنا نقامر. نخفي ما في قلوبنا، نظهر عرينا من بين طيات الملابس. يشتعل الفحم على رأس النرجيلة ويذوي بطيئاً، يدخل الدخان رئتيها ورئتيّ.
لا يعرف كثيرون عن النمل. لولاه لما استطاعت القدرة أن تتكاثر. يسرق النمل السكر من منازلنا، والقمح من حقولنا. دواسات الأرجل مملكة النمل دون أن تنتبه إليها. ربما أحجام النمل صغيرة. لكن النمل يعرف ماذا يريد، يعرف قيمة الحياة.
تقوم السيدة الجالسة أمامي عن الطاولة، يتهادى فستانها منسدلاً إلى أعلى (مثل نهر العاصي). ربما لا تدري هي ماذا تريد. لا يعرف مرافقها ماذا يريد. أما أنا، فأدرك قيمة الكنوز التي يحويها النمل، ويحويها فستان السيدة، والتي تحوينا جميعاً.