تراتيل الميلاد البيزنطية ستصدح هذه الليلة من داخل كنيسة سيدة البلمند التاريخية. الألحان الفرحة ستعلو في الباحة المطلة على الكنيسة، وفي الرواق سيتجمهر المؤمنون. قد يأتون الدير على جناح السرعة، لكن ما إن يعبرون عتبات الباب الخارجي حتى تغلبهم السكينة والهدوء. فداخل هذه الجدران التي يزيد عمرها على 800 سنة، تسود السكينة والطمأنينة، ويطغى الشعور بالرهبة. شعور تعطيه حياة الرهبان التي ترتكز على الهدؤ في التعاطي وتولده الحجارة القديمة والهندسة الفريدة من نوعها. دير سيدة البلمند هو المعلم الوحيد في لبنان الذي بناه السيستريون (Cisterciens) في القرن الثاني عشر ميلادي، والذي أضفت عليه عملية الترميم جمالاً. ولأن هذا المعلم فريد من نوعه في لبنان، ولأن أهميته التاريخية والدينية عالية جداً، قرّر معهد التاريخ والآثار ودراسات الشرق الأدنى في جامعة البلمند إجراء دراسة شاملة عنه، فكان المشروع سنة 2002، وأُعطيت نتائج بعض هذه الدراسات في ورشة عمل بعنوان «دير سيدة البلمند البطريركي، دراسة أثرية هندسية وتراثية». وتقول نادين بانايوت هارون، مديرة معهد التاريخ والآثار ودراسات الشرق الأدنى، الذي نظم المؤتمر، إن الدراسات التي أُنجزت خلال السنوات الماضية سمحت بدراسة هذا المعلم على نحو واسع، «فكانت هناك دراسات للحجر ونوعية الحفر عليه، ودراسات للقطع الأثرية المكتشفة، من ساعات شمسية إلى أوانٍ زجاجية. ودُرست مجموعة الأيقونات والملابس الأكليركية التي بحوزة الرهبنة وتُعَدّ روائع بحد ذاتها. وترى هارون أن هذه الدراسات اكتملت حينما حصلت الجامعة على الإذن لفتح اسبار داخل جدران الكنيسة وخارجها لمعرفة تاريخ الموقع معرفة علمية مفصلة، وخاصة أن الرواية السائدة تقول إن الكنيسة مبنية على آثار بيزنطية. لكن الحفريات في المقبرة أبرزت غرفة يعود تارخها إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر فقط. أما الحفريات في الكنيسة، فأكدت أن الموقع كان مسكوناً من الفترة الرومانية وحتى العثمانية. فماذا حل بالرواية؟ لم نستطع نفيها أو تأكيدها على نحو قاطع، لذا سيُعمَل على اسبار أخرى داخل الكنيسة لفهم تاريخها فهماً أوسع.
وتقول هارون إن مشروع الدراسة التفصيلية لدير سيدة البلمند بدأ أولاً بهدف إنجاز جرد عام للقطع الأثرية من حجارة منحوتة ومبعثرة خارج جدران الدير والكنيسة. ولما تبيّن من الدراسة الأولية أن معظمها يعود إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، بدأت الدراسات تتوسع لتشمل هندسة الدير والتحولات التي عرفها خلال القرون الماضية. وكنا قد تَوسَّعنا في هذه الدراسة لتشمل الذاكرة الشفهية، فكان لقاء مع رهبان الدير الذين عاشوا فيه خلال العقود الماضية وكانوا شهوداً على هذه التغيرات.
تجدر الإشارة إلى أنه في نهاية خمسينيات القرن الماضي، تقدم البطريرك إغناطيوس هزيم بطلب من المديرية العامة للآثار لإدراج الدير ضمن لائحة الجرد العام، وهذا ما جرى، ومن بعدها بدأت ورشة ترميم الدير (على يد المدير العام للآثار سابقاً، الدكتور كميل أسمر) التي أعادته إلى شكله في بداية القرن وأعادت إليه تألقه الهندسي.



دير سيدة البلمند هو المعلم التاريخي الوحيد في لبنان لرهبان السيستريون (Cisterciens) وهم رهبان فرنسيون وصلوا إلى منطقة الشرق الأوسط خلال الحملات الصليبية واتخذوا من البلمند مقراً لهم، وأطلقوا عليها تسمية «الجبل الجميل» (Belmont) التي عربت لاحقاً إلى بلمند. وأديرة رهبان السيستريين في أوروبا هي من روائع فن القرون الوسطى، لما تتميز من صلابة في البناء وجمالية ترتكز على البساطة والإتقان في حفر الحجر. وسكن هؤلاء الرهبان في البلمند بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر ورحلوا مع انسحاب الصليبيين عن المنطقة، فوقع الدير وأملاكه في النسيان والإهمال حتى سنة 1603 حينما قررت السلطنة العثمانية وهبه إلى البطريركية الأورثوذكسية، التي استعملته ديراً بطريركياً. وتقول نادين بانايوت هارون إن «أهمية هذا المعلم تكمن في الازدواجية في هويته، فهو في آن واحد معلم تاريخي فريد من نوعه في لبنان وصرح ديني تعج فيه الحياة. من هنا، عادت فكرة إنشاء متحف داخل الدير يخبر عن تاريخه، ويبرز الآثار الموجودة فيه من قطع أثرية وفنية». واختيرت القطع التي ستعرض، وكيفية عرضها... وتبقى التفاصيل اللوجستية في إنشاء المتحف.
ما أنجزه معهد التاريخ والآثار في جامعة البلمند من دراسة تفصيلية لهذا المعلم التاريخي والديني ليس من الكماليات، بل من الضروريات. يجب دراسة المعالم الدينية والتاريخية في لبنان على هذا النحو، لذا قرر هذا الفريق العلمي المختص تقديم المساعدة العلمية أو حتى دراسة الأديرة أو المراكز التاريخية التي ستطلب منه دراستها لكي لا تكون الأمور حكراً على معلم واحد، بل تشمل كل المواقع الدينية اللبنانية التي تبحث عن العلم لا الأساطير لمعرفة تاريخها.