انتهت الحفريات الأثرية في موقع المرفأ في وسط بيروت. ترك علماء الآثار الموقع بعد عمل دام أكثر من عشرة أشهر. غطوا الآثار المكتشفة بالرمال لحمايتها من عوامل الطقس وانكبّوا يدرسون المكتشفات. الكل ينتظر قرار وزير الثقافة في المحافظة والاستملاك أو والردم

جوان فرشخ بجالي
موقع المرفأ في العقار الرقم 1474 الذي تمتلكه شركة عودة ـــــ سردار في وسط بيروت خلف بناية النهار. هذا العقار هو امتداد لموقع التل الأثري الذي طالبت منظمة اليونسكو بالمحافظة عليه بأكمله، لأنّه يحوي آثاراً تعدّ فريدة من نوعها في لبنان. وجرت المحافظة عليه، وقد أدرج في لائحة المواقع الأثرية والسياحية في لبنان. لكن هذا الواقع لم يمنع سوليدير من بيع العقار إلى الشركة، التي كانت مدركة أن ما قد يحويه باطن الأرض من آثار قد يحول دون قدرتها على تشييد مبناها، بحسب قانون الآثار، لكنها أبقت «استثمارها»، وموّلت الحفريات الأثرية لمدة سنة تقريباً، فأتت النتائج مذهلة على صعيد تاريخ بيروت. ويشرح مدير الحفريات في المديرية العامة للآثار، الدكتور أسعد سيف، أنه عُثر على كبرى المراحل الكبيرة من تاريخ العاصمة. فهناك الفيلات البيزنطية الفخمة، والمصانع الرومانية الكبيرة، والبيوت الهيلينستية الرائعة الجمال، والطرق الفينيقية المعبّدة وأبراج المراقبة العسكرية وأسوار المدينة الفينيقية التي كانت تشرف على المرفأ القديم. 3000 سنة تتراكم هناك.
ويشرح سيف عن المكتشفات في هذا الموقع الذي يكمل التسميتين المتّبعتين للمنطقة: التل الأثري أو التل الفينيقي، نسبةً إلى المكتشفات التي تعود إلى هذه الفترة، من جدران دفاعية وأسوار للمدينة وطرق معبّدة تقود إلى المرفأ. ويكشف سيف عن العثور على «تكملة للطريق الفينيقية التي كانت تقود إلى المرفأ الذي يقع في تقاطع شارعي فوش واللنبي، والطريق مرصوفة بحجارة كبيرة. واكتشف الفريق برجاً دفاعياً مربعَ الشكل عرضه متران، وأسوار المدينة التي كانت قد ظهرت أولاً في العقارات المجاورة». وقد بدأ شكل المدينة الفينيقية يعرف أكثر وأكثر، ولم تعد الآثار المكتشفة قبل عشر سنوات تمثّل جزيرة تاريخية في وسط مبان حديثة، بل بدأت تتوسع لتشمل كل التل القديم وتتبلور معه صورة بيروت الفينيقية.

لم تعد الآثار المكتشفة قبل عشر سنوات جزيرة وسط أبنية
واكتشف العلماء، بحسب سيف، فوق المستوى الفينيقي منزلاً يعود إلى الفترة الهيلينستية شبه المجهولة في بيروت. المنزل مؤلّف من طابقين، وهو هُدم على أثر حريق قوي، لكنّ دراسة شكله الهندسي والأغراض المكتشفة تقود إلى معرفة تفاصيل الحياة اليومية في هذه المدينة قبل 2300 سنة، إذ يبدو أننا عثرنا على الساحة الداخلية للدار وكانت مسقوفة بخشب يصعب احتراقه، اكتشف العلماء مقعداً خشبياً مجوّفاً داخله كأنما لتوضع فيه أوانٍ فخارية من أجرار للمياه العذبة. وتزيّن الجداريات الخاصة في تلك الفترة جدران غرف المنزل الذي عثر بداخله على كمٍّ من الفخّاريات المحليّة الصنع، مع قسم آخر مستورد من المدن الإغريقية ويتميز بملمسه الناعم، ويؤكّد تواصل التجارة بين هذه المدن. ويبدو أنّ الموقع استعمل في الفترة الرومانية للصناعات، فهناك أجران واسعة وأفران كبيرة يقول سيف إنه يمكن القول دون الجزم إنها كانت تُستعمل لصباغ الأقمشة. أما في الفترة البيزنطية، فتوسعت المدينة وتحوّلت المناطق الصناعية سابقاً إلى سكنية، فشيّدت فوق الأجران فيلا من طابقين غطت أرضيّتها قطع من الفسيفساء». ومن المؤكد أنه كان للعقار طبقات أثرية أخرى أُزيلت في خمسينات القرن الماضي حينما بدأت عملية تشييد الأبنية في بيروت.
وكانت الدولة اللبنانية قد اتفقت مع صندوق النقد الكويتي على تمويل إنشاء متحف في وسط بيروت يجمع المكتشفات الأثرية للحفريات. وللصدفة، فهذا المتحف سيُبنى على بعد عشرات الأمتار عن موقع المرفأ، فهل يُعقل أن يدمر موقع هو في حدّ ذاته متحف للحقب التاريخية، لتُنقل أغراضه إلى المتحف؟