شراء المرء خضراً صيفية في فصل الشتاء، أمر أصبح طبيعياً منذ اكتشاف الخيَم البلاستيكية. لكن قطف فواكه صيفية في التشرينين وحتى في كانون، هو غير العادي، ها هو يحصل في بعض المناطق ومنها الضنّية
عبد الكافي الصمد
«باع جارنا كيلو الخوخ الأحمر في بيروت بمبلغ عشرة آلاف ليرة!». بهذه العبارة يروي نقولا الشامي، من بلدة حقل العزيمة في الضنية، والدهشة والبهجة ترتسمان على وجهه، كيف أن جاراً له قطف في «عزّ تشارين» نحو 5 كيلوغرامات من ثمار الخوخ الأحمر، وأنزلها إلى صاحب أحد محال بيع الخضر والفاكهة في العاصمة، عارضاً عليه فاكهة صيفية على أبواب فصل الشتاء، فما كان من الزبون الذي وجد أن السلعة «لقطة»، إلا أن اشترى منه غلّته كلها، بعدما فاوضه على سعرها، الذي استقرّ على عشرة آلاف ليرة عدّاً ونقداً للكيلوغرام الواحد!

ما يرويه الشامي ليس سوى حالة من مئات الحالات المشابهة التي شهدتها قرى وسط الضنية وساحلها أخيراً بنحو واسع ومفاجئ، لكونها تشتهر بزراعة الفواكه الصيفية على اختلافها، ومنها الخوخ الأحمر أو «البكيري» كما يطلقون عليه، لأنه ينضج ويُقطف في أواخر الربيع من كل عام، قبل أي نوع آخر من أنواع الفواكه.
لكن هذه المفاجأة التي تناقلها المزارعون كأنها عجيبة من عجائب الطبيعة، كانت لسببين: الأول أنه في هذا العام كانت ثمار الفاكهة «الرجعية»، أي التي تبرز وتنضج عادة في مثل هذه الأيام من كل سنة إنما بنحو قليل جداً، قد تجاوزت التوقعات في الحالات الاعتيادية، وأصبحت أشجارها تحمل ثماراً كما لو أنها في عزّ الموسم.
عماد إبراهيم، من بلدة بخعون، يوضح في هذا السياق أن والده «يجلب معه من بستانه إلى البيت يومياً أكثر من كيلوغرام من الخوخ، ويعرضه أمامنا»، ويشير في موازاة ذلك إلى أن «أشجاراً كثيرة في بستاننا قد أزهرت وبدت كأنها في فصل الربيع!».
أما السبب الثاني للمفاجأة، فهو أن سعر كيلوغرام الخوخ من «الباب الأول» الذي كان لا يباع في موسمه بأكثر من 4 آلاف ليرة، بات يباع اليوم حتى لو كان لا يزال أخضر، أي فجّاً، بما بين 3 و7 آلاف ليرة تقريباً».
هذا التطور غير الطبيعي الذي نتج من انقطاع الأمطار لفترة طويلة، وارتفاع درجات الحرارة بنحو غير معتاد في مثل هذه الأيام من كل سنة (قبل أن تمطر منذ يومين)، يقول عنه مظهر الصمد «لم نكن نشهده في السابق. كنا نرى بعض حبّات الخوخ «الرجعي» على الأشجار، إلا أن ما يحصل هذه الأيام يعدّ ظاهرة غير طبيعية».

غنى الضنية بالينابيع مرّر «الصيف الثاني» بأقلّ ضرر ممكن
لم تقتصر هذه الظاهرة اللافتة في المنطقة على صنف الخوخ، الذي يعدّ أحد أنواع الأشجار المثمرة الرئيسية والمنتشرة بكثرة فيها، بل امتدت جزئياً أو كلياً، إلى أصناف المشمش والدراق والتفاح والإجاص التي يعتاش منها أكثر من 60% من عائلات الضنية تقريباً، حيث بات حديث المواطنين في بلدات جرد المنطقة، وتحديداً في بلدات السفيرة وقرصيتا وبيت الفقس ونمرين وبقرصونا، كيف أن «أشجار الإجاص قد أصبحت بيضاء ومشكوكة بالزهر من رؤوسها حتى كعابها، في مشهد لم يره الكبير ولا الصغير عندنا»، على حد تعبير علي زين الدين من بلدة قرصيتا، الذي كان لا يتوقف عن ترداد عبارات: «هذا غضب من الله»، و«ألله ينجّينا من الأعظم».
قلق أهالي الضنية من هذه الظاهرة يفسّره رئيس مصلحة الزراعة في الشمال معن جمال، من الناحية العلمية، بإشارته إلى أنها «تعود إلى سببين: الأول عطش هذه الأشجار والبساتين للمياه أخيراً. والثاني، ارتفاع درجات الحرارة في الفترة ذاتها، ما جعل براعم الأشجار تبرز وتزهر وتثمر».
فبرغم أن الضنّية كانت تشهد في السابق، كما باقي المناطق اللبنانية، «صيفاً ثانياً» بين شهري تشرين الأول والثاني، إلا أن كونها تعدّ منطقة غنية جداً بمياه الينابيع والأنهار، جعل «الصيف الثاني» هذا يمر بأقل ضرر ممكن، لكن ظاهرة الاحتباس الحراري، وفق جمال، «تتحمل مسؤولية ما يحصل اليوم».
هذا الأمر كان قد دفع جمال إلى التخوف من أن عدم «تساقط الأمطار في الأيام القليلة المقبلة، وأن تترافق مع موجات برد وصقيع، سيقتل براعم الأشجار في الربيع المقبل»، لكنها، الحمد لله، أمطرت.. وتبدّد الخوف.