بعد 15 عاماً من فتح مصنع أنابيب المستقبل ازدادت إنتاجيّته بدليل ساعات العمل الإضافيّة التي كان يقضيها العمال فيه. غير أن ظهور أكثر من إصابة سرطان بين العمال يدفع إلى التساؤل عن إجراءات السلامة للعمال وعن كلفة، يبدو أنها لم تكن في حسبان أصحاب الشركة
عكار ــ روبير عبد الله
أمل إبراهيم السيد أن تشفع له إصابته بالسرطان لدى مسؤولي شركة أنابيب المستقبل، فتحميه من الصرف الذي طال عمال الشركة وموظفيها. لكن فؤاد عرابي مسؤول شؤون الموظفين في الشركة الذي كان قد وعده بـ«اعتبار معاشه خطاً أحمر»، كما قال لـ«الأخبار»، لم يتمكن من الإيفاء بوعده لأن الأمور تغيرت وانتهى ما سمّاه عرابي «الكيان المعنوي للشركة».
بعد زيارتنا، في 15 تموز الماضي، بدا لنا السيد وكان أمله في الوظيفة تماماً، لا بل بالحياة برمّتها، قد تراجع. لم يعد السيد يحلم باستمرار المعاش، بعدما اقتصر كلامه على الهمس. إذ إن المرض الخبيث أكل أوتاره الصوتية «ورجلاي ما عادت تحملني، وما بدي إلا إنّو اتحكّم، دخيلكم لا تتركوني، روحي عم تطلع». مطلب السيد فقط هو تأمين علاجه المكلف، لأن إخوته ما عادوا قادرين على تغطية كلفة العلاج الكيميائي وصور الأشعة.
أما عبد اللطيف غمراوي فقد كان أكثر تماسكاً لأن السرطان الذي أصابه من حلقه حتى أسفل بطنه يبدو له تحت السيطرة. لم يبق من رحلة العلاج إلا أربع جلسات وقائية، كلفتها مرتفعة جداً. ولأن عقود التوظيف انتهت، فقد توقف الضمان الاجتماعي عن التغطية. لكن في سرده سيرورة عمله خلال 8 سنوات على ماكينة «الفايبر غلاس» يفصح غمراوي عن أسرار تتعلق بمخاطر العمل وبإهمال الشركة معظم الإجراءات الوقائية. وبالاستناد إلى أحدث التقارير المتعلقة بتلك المخاطر، يبدو أن لغز الإقفال المفاجئ للشركة قد أصابه بعض الضوء.
يسرد غمراوي الذي بدأ العمل عام 2002 على ماكينة «جي آر بي» لإنتاج قساطل الفايبر غلاس، ظروف عمله والمخاطر المترتبة عليه. 8 ساعات عمل يومية، بالإضافة إلى ساعات إضافية غير محددة. لا عطلة على الإطلاق، بما في ذلك أيام الآحاد تحت طائلة الصرف من الخدمة. يجلس غمراوي فوق الماكينة في غرفة مقفلة بالزجاج. وعلى الرغم من وجود الشفاط الذي يسحب الرذاذ المتناثر في فضاء الغرفة، كانت تنبعث رائحة قوية تنتج من ضخ مادة «الرزين» بعد تسخينها التي تفوح منها رائحة لا يمكن تحملها أكثر من 5 دقائق. الشفاط تعطل ولم يصلح، واكتفى أصحاب المصنع بنزع الزجاج بعد مدة من الزمن.
يتحدث غمراوي عن مادتين أخريين «الهوب والشوب»، وهما عبارة عن ألياف زجاجية تمرر على شكل خيوط يسحبها بيديه باستمرار من دون وضع قفازات، وغالباً ما يشعر بما يشبه وخز الإبر ثم تتخدّر يداه. ويؤكد غمراوي أن هاتين المادتين تحتويان على عناصر مسرطنة وفق ما هو مكتوب على العبوات التي تحتويها.
أما المادة الأخطر التي يسميها العمال «كاتاليس» (الأرجح أن الاسم هو صفة عمل المادة) والمستخدمة لتجميد القساطل، فهي تحدث حروقاً لدى ملامستها الجلد، كما يمكن أن تحرق العين «وتطفئها نهائياً»، وقد تعرض غمراوي للإصابة بها أكثر من مرة.
الوقاية الوحيدة التي كانت تقدمها الشركة بحسب غمراوي هي كمامة عادية. أما الملابس التي تستخدم حتى في فروع أخرى من الشركة، فقد حجبتها الشركة عن العمال، وعندما طالبهم غمراوي بها، أسوة بعمال أنابيب المستقبل في قطر، وذلك بعدما تسلّم عيّنة منها بفضل قريب له يعمل هناك، لم يلق طلبه أي اهتمام.
يؤكد العاملون في مختبر الشركة، ومنهم عبد الستار عوض، عدم وجود أي إجراءات وقائية لحمايتهم من المواد الكيميائية التي يؤدي استنشاقها إلى مضاعفات خطيرة مثل مواد البوتانوكس والرزين والكوبالت وغيرها. كما يؤكدون عدم خضوعهم لأي فحوص طبية على وجه الإطلاق. ويقول جميل طالب نائب رئيس نقابة عمال الشركة إنه جرى افتتاح مستوصف تابع للشركة قبيل إقفالها بسنة واحدة فقط، وإن هذا المستوصف لم يكن جاهزاً إلا لإجراء بعض الفحوص الطبية البسيطة من قبيل فحص البول وقياس ضغط الدم.
السيد فؤاد عرابي كان قد وعد إبراهيم السيد بإبقائه في العمل، وللدلالة على جدية وعده، ذكر أن عبد اللطيف غمراوي بقي يتقاضى أجره أكثر من سنة، على الرغم من انقطاعه عن العمل، وهذا ما اعترف به غمراوي بنفسه. ويضيف عرابي إن نقاشاً كان يجري داخل الشركة من أجل الوصول إلى تسوية تقضي بإبقاء حوالى ستين موظفاً، ومن بينهم الموظفون الثلاثة المصابون بالسرطان، عبد اللطيف وإبراهيم غمراوي، بالإضافة إلى إبراهيم السيد. لكن الأمور جرت بعكس ذلك وأقفلت الشركة نهائياً.
اللافت بالنسبة إلى الإصابات الثلاث أنها لم تكتشف خلال فحوص دورية، إنما عرفت من خلال ظهور عوارضها بعدما استفحل المرض الذي أصاب إبراهيم السيد في الأوتار الصوتية ولم يعد يستطيع التكلم إلا همساً. وإبراهيم غمراوي لم يعد يقوى على المشي ومن ثم الوقوف. وعبد اللطيف غمراوي ظهرت بعض الدرنات في أنحاء مختلفة من جسمه.
ومع ذلك لم يحسم الأطباء ما إذا كانت الإصابة ناتجة من العمل في مصنع الأنابيب كما أخبرت غمراوي طبيبته المعالجة منى الأيوبي. وكما صرّح وليد المقدم الاختصاصي في العلاج الكيميائي الذي يعالج إبراهيم السيد. لكن المقدم سأل ما إذا كانت القوانين اللبنانية تلزم المصانع التي تحوي مواد كيميائية تشبه الإترنيت بالاستعانة بطبيب خاص. وما إذا كانت تجري الفحوص اللازمة وصور الأشعة بحسب طبيعة المواد والآلات التي يتعامل معها العامل. ويضيف المقدم إنه لم تحسم ما إذا كانت الإصابات في مصنع أنابيب المستقبل ذات منشأ واحد.
بين ما تحدث عنه المصابون من ظروف عملهم ومخاطره، وما ترك مفتوحاً في إجابات الأطباء، يبقى أن من واجب الأجهزة التابعة لوزارة الصحة الإشراف على ذلك الملف. وإذا كان ثلاثة من أصل مئة وخمسين موظفاً أصيبوا بالسرطان ولم تكتشف حالاتهم مبكراً، فإن قدراً من المسؤولية يقع على عاتق الشركة، والاضطلاع بها مكلف مالياً، كما هو مكلف اتباع الإجراءات الوقائية للحؤول دون المزيد من الإصابات، وهو ما يمثل جزءاً من اللغز خلف قرار الإقفال المفاجئ للشركة.


الحقوق محفوظة

أكد فؤاد عرابي، مسؤول شؤون الموظفين في شركة أنابيب المستقبل، لـ«الأخبار» أنّه «بانتهاء الكيان المعنوي للشركة لم نعد مسؤولين عن الموظفين». أما الشركة فكانت قد أعلنت أنّ إنهاء عقود أجرائها حتمته الظروف الاقتصادية وقد اتبعت في ذلك الأصول القانونية، وأن حقوقهم محفوظة في حسابهم في الشركة ولدى صندوق الضمان الاجتماعي