عمر نشابةإنها المعادلة الصعبة التي يقبل بها حزب الله. فالحزب اعتاد تحمّل آلام طعنات خناجر الداخل مقابل مجرّد إشارة قد تخدم العدالة لفلسطين. ذلك الحزب الذي ما زال، وحده، يتحدى العالم، بسلاحه وثباته وصبره من أجل عودة القدس إلى أصحابها.
فليصدر القرار الاتهامي الدولي وليتّهم المجتمع الدولي المقاومة باغتيال الرئيس رفيق الحريري والوزراء والنواب والإعلاميين والضباط... لن يغيّر ذلك شيئاً في أذهان من استبق المحكمة ليدين الحزب. لن يغير ذلك شيئاً في نسبة الكراهية التي تملأ نفوس بعض اللبنانيين تجاه بعضهم الآخر. فليصدر القرار الاتهامي الذي قد يطلق إشارة انطلاق الهجوم المركّز على كلّ أعداء من يدعم المحكمة. فيا للمصادفة: إن الأنظمة التي تدعم المحكمة الدولية هي نفسها الأنظمة التي تدعم إسرائيل أو تتهاون مع جرائمها المستمرّة منذ ستين عاماً بحقّ الأطفال والنساء والشيوخ. مندوبة الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي التي طالما هدّدت باللجوء إلى حقّ النقد «فيتو» بوجه أي قرار دولي يدعو إلى مساءلة إسرائيل عن قتل الأطفال في مدارس الأمم المتحدة، هي نفسها من عبّر أخيراً عن دعم بلادها المحكمة الدولية بعشرة ملايين دولار وسط تصفيق الجماهير في بيروت.
لكن سلاح المحكمة الدولية، منتحل صفة العدالة، حضاري الشكل، استخباري المضمون، يستخدمه البعض في حرب أهلية مدمّرة مستمرّة منذ سبعينيات القرن الماضي. إنّها الفرصة التاريخية لاستنجاد البعض في لبنان بالغرب، علناً، وباسم العدالة، للانقضاض على شركائهم في الوطن.
«سجون لاهاي تنتظركم... أميركا معنا والسعودية معنا والأمم المتحدة معنا والعالم كلّه معنا، وإذا كنتم تهدّدوننا بسلاحكم، فنحن حضاريون ولا نهدّد إلا بالعدالة الدولية وبالمؤسسات القضائية وسيف القانون». يهزّ جميع أفراد العائلة البيروتية برؤوسهم متفاخرين بما قاله ابنهم الشبل في تيار الرئيس الشهيد. «يا عمر! نحنا مع المحكمة، شو بدك يانا نكون مع حزب الله ويلي احتلّو بيروت في 7 أيار والميليشيات والزعران؟» تصرخ والدته.
لا بأس يا سيدتي، صدر المقاومة يتحمّل الطعنات. لكن، ألا تستحقّ فلسطين مجرّد كلمة؟ ولا حتى كلمة في سياق الحديث عن العدالة، وعن دور «المجتمع الدولي» في الإنصاف والعدل وإعادة الحقّ إلى أصحابه؟ وبالمناسبة، أين كان «المجتمع الدولي» في 7 أيار، إذا كان فعلاً «معنا» كما أوهمكم؟
في لاهاي يتباهى القاضي أنطونيو كاسيزي بعضلاته الأكاديمية المنتفخة وسمعته الرائجة في الجامعات وكليات الحقوق العالمية، ويفاخر هيرمان فون هابيل بإنجازاته البيروقراطية في عملية إطلاق المؤسسة القضائية الدولية. أما دانيال بلمار، فيدّعي بأعلى صوت ارتكازه الحصري على حيث تقوده الأدلّة. ويعلو التصفيق من جديد، وترتفع وتيرة حماسة بعض اللبنانيين المتعطّشين لاقتصاص بعضهم من بعض بأسلحة غربية.
الحقيقة باتت أن المحكمة الدولية هي الأساس. أما العدل فشأن آخر. وهنا بعض ما يشير إلى ذلك بوضوح:
1ـ إن من يدعو إلى تأليف هيئة دولية لتحقيق العدالة بسبب عجز المؤسسات القضائية عن ذلك يفترض أن يطلق ورشة جدّية لإصلاح تلك المؤسسات. لم تبادر القوى التي تدعو إلى تحقيق العدالة الدولية إلى إطلاق أية مبادرة من هذا النوع. يدلّ ذلك على أن أهداف المتحمّسين للمحكمة الدولية ليست الوصول إلى العدالة، بل استعراض القوّة عبر الاستقواء بالغرب لمواجهة شركائهم في الوطن.
2ـ إن من يدعو إلى إطلاق محكمة الدولية لتحقيق العدالة لا يفترض أن يستبق أحكامها عبر إدانة سوريا أوّلاً وحزب الله لاحقاً وربما غيرهما بعد ذلك.
3ـ إن الصادقين في تحقيق العدالة في جريمة اغتيال رئيس وزراء أسبق لا يصدرون عفواً عن شخص أدانه القضاء العدلي بجريمة اغتيال رئيس وزراء آخر. (وخصوصاً أن نائب رئيس المحكمة الدولية القاضي رالف رياشي كان من بين قضاة المجلس العدلي الذي أدان سمير جعجع).
4ـ إن الداعمين للعدالة الصادقة يفترض أن يدقّقوا بآلية تحقيقها ويتأكدوا من أنها تعمل بما يتناسب و«أعلى المعايير الدولية في مجال العدالة الجنائية» (كما جاء في نصّ القرار 1757).
لكن لا بأس في كلّ ذلك. لا بأس إذا كان البعض يريد المحكمة آلية لمواجهة خصومهم في الداخل. لا بأس إذا كان البعض يريد إطلاق الرصاص على المقاومة، مقابل رميهم مجرّد بحصة على جزمة جندي إسرائيلي يقتلع أشجار الزيتون في رباط القدس الشريف. لا بأس في استهداف السيد حسن نصر الله بآلاف البيانات والخطابات والتصريحات مقابل مجرّد كلمة واحدة تدعو إلى محاسبة قتلة أطفال في قانا وبعلبك وصور والنبطية وصديقين ومروحين وبنت جبيل... أم هؤلاء الأطفال أقلّ قيمة بشرية من الرئيس رفيق الحريري؟ أم هؤلاء الأطفال لا أحد يسأل عنهم، ولا أحد يحبّهم، ولا أحد يسعى لتحقيق العدالة لأجلهم ولأجل لبنان؟
تلمع العدالة في عيون المجاهدين على خطّ النار، في كلّ بيت وكلّ دار. فدائيون كانوا وما زالوا. فدائيون حملوا دماءهم على أكفّهم في سبيل تحرير الأرض وعودة الحقوق لأصحابها. مجاهدون صادقون مع أنفسهم. مجاهدون في سبيل العدالة. مجاهدون مستعدون لتحدي العالم... ذلك العالم الذي يسكت عندما تغتصب الأمهات ويقتل الأطفال وتُجرف البيوت وتُترك القدس عارية وحدها، في جليد الانحطاط العربي.