بعد أكثر من عشرين عاماً على هجرها مهنة صناعة القشّ، قرّرت سكنة غنوي (72 عاماً) العودة الى عملها، لتستعيد بعضاً من ذاكرتها «المليئة بالمحبّة والأنس». بهذه العودة، تتوّج بلدة حولا والمحيط أم رائف السبعينية «ريّسة» هذه المهنة، وخصوصاً أنها الوحيدة الآن التي تتقن صناعة أواني القش، بعدما انقطع الناس عن العمل اليدوي
حولا ــ داني الأمين
قبل ثلاث سنوات، نزلت سكنة غنوي إلى «الحقلة»، وجمعت ما تيسّر من القش. حملت الغلّة وعادت بها إلى البيت الذي تسكنه وحيدة في بلدة حولا. افترشت أرض الدار وغرقت في العمل الذي انقطعت عنه عشرين سنة متواصلة. ما هي إلا ساعات قليلة، حتى استحال القشّ بين يديها تحفة فنية لا تشبه بقايا العيدان المنثورة عند أطراف الدار. كانت تلك التحفة ستعلّق في بيت ابن شقيقتها ليتذكّر ما كانت تصنعه الخالة قبل عشرات السنوات، لكن «الموت خطفه قبل ذلك»، تقول. وفاة الشاب بقنبلة عنقودية في بلدته حولا، دفع الخالة إلى العودة للعمل بصناعة القش «إكراماً له»... وحنيناً لمهنة ورثتها عن جدّتها.
عادت السيدة السبعينية لممارسة هواية قديمة ورثتها عن الجدة ومن ثم الوالدة، كما سائر نساء البلدة حينها. لكن، بعد هذه العودة، وجدت أم رائف نفسها «وحيدة في هذا العمل، بعدما ابتعد الناس عنه، وحتى عن زراعة القمح التي كانت أساس هذه المهنة». مع ذلك، تغمر السعادة السيدة السبعينية التي تعود بعد عشرين عاماً لممارسة هوايتها المفضلة.
ثلاث سنوات لم تبع خلالها أم رائف أية قطعة، لسببين، أولهما أنها عادت إلى المهنة لحنينها إليها وثانيهما «لأن الأهالي استغنوا اليوم عن هذه المنتجات». لكن، مع ذلك، عرض أحد التجار في منطقة الأوزاعي في بيروت على أم رائف شراء منتجاتها «لأن هناك الكثير من أصحاب الهوايات المستعدّين لشراء هذه السلع التي باتت نادرة، بأسعار مرتفعة».
قبل خمسين عاماً، لم تكن أم رائف العاملة الوحيدة في هذه المهنة، فقد كانت معظم النسوة في البلدة وحتى المحيط يمتهنّ هذه الصناعة التي كانت مصدر رزق أساسياً لبعضهنّ. تتذكر أم رائف بحسرة «كيف كانت النساء يستغللن فترة الليل للتفرّغ لصناعة السلال والصواني، بعد الفراغ من العمل في الحقول وفي المنزل أيضاً»، تقول. تضيف: «كنّ يجتمعن في أحد المنازل ويعملن على صناعة أواني القش والزينة، ليبعنها في الأسواق الشعبية في بنت جبيل والطيبة ومرجعيون وأحياناً في فلسطين».
«كانت تستغرق صناعة الصينية أو السلّة الواحدة أسبوعاً كاملاً»، تقول أم رائف. تدرك السيدة مدى صعوبة العمل «لكونه شاقاً ودقيقاً، لكنّه في الوقت نفسه مسلّ». كل شيء كان «مسلّياً ومفرحاً في الماضي: العمل والعونة حيث كنا نعمل مجتمعين ونمضي السهرات الطويلة في صناعة القش أو أي شيء آخر». أما اليوم، فقد انتهى كلّ شيء: السهرات الطويلة والعونة وحتى صناعة القش. وليس في المنطقة كلّها إلا سكنة غنوي التي تصنع من القش أواني وزينة. ورغم فرحها بعملها، تشكو سكنة «ندرة القشّ، وهذا الأمر المزعج بالنسبة إليّ، فالأهالي لا يزرعون القمح الآن، كما في السابق حيث كان جميع أبناء البلدة يحاولون زرع كلّ شبر من الأرض لاستغلالها والاستفادة منها». باتت اليوم سكنة تبحث عن بقايا القش في الحقول البعيدة «ويوم بلاقي ويوم ما بلاقي».
لا تحتاج هذه المهنة إلى أي رأسمال. «مسلّة» صغيرة فقط كافية للبدء. وما تحتاج إليه هذه الصناعة أيضاً «الصباغ بألوانه المتعددة التي نشتريها اليوم من النبطية، بعدما انقطع التجار السوريون عن الإتيان بها إلى البلدة». تصف أم رائف كيفية صناعة القش، فتقول: «قبل البدء بالعمل، يجب وضع القش في الماء مدّة خمس ساعات ليصبح طريّاً، ومن ثمّ يوضع القش بمائه على النار ويضاف إليه الصباغ مدّة ساعة أو أكثر، حسب الحاجة إلى اللون». لا تزال أم رائف تحتفظ بالكثير من التفاصيل عن هذه الصناعة، كما تتذكّر عملها فيها قبل نحو ستين عاماً، عندما كانت تساعد والدتها في صناعة منتجات القش وبيعها في فلسطين. تتذكر عندما كانت تذهب مع والدتها سيراً على الأقدام، وهي لم تتجاوز السنوات العشر، «إلى فلسطين قبل الاحتلال لبيع الصواني والسلال والعنب، وشراء حبوب الذرة بما نجنيه، وإن انتهينا باكراً عدنا إلى الضيعة وإلا اضطررنا إلى النوم هناك ليلة أو أكثر». وعندما لا تستطيع أم رائف الذهاب إلى فلسطين، كانت تقصد أسواق الجنوب للبيع. هناك، لم تكن تحتاج للبقاء حتى ساعات متأخرة من النهار كي تبيع ما تحمله، تقول «كنت أبيع منتجاتي بسرعة، فالزبائن كانوا يتسابقون على الشراء». كان بيع أواني القش يوفّر مدخولاً كافياً لأم رائف والعائلة، إذ تشير إلى أنه «بسعر سلّة واحدة كنت قادرة على شراء فستان جميل». لم تكن هواية أم رائف مقتصرة على صناعة القشّ، بل كانت تجيد أيضاً «تطريز الثياب والشراشف والفرش، كما كنت أتقن فنّ الرسم، فقد كنت أقضي معظم أوقات فراغي أرسم على أغطية الأسرّة، وهي المهنة التي تعلّمتها من نساء بلدة شقرا المجاورة».

لا تحتاج هذه المهنة إلى أي رأسمال، فقط «مسلّة» صغيرة كافية للبدء

كانت أم رائف تستطيع شراء فستان جميل بسعر سلّة واحدة من القشّ

كل شيء انتهى. لم تعد السبعينية قادرة على الرسم ولا التطريز، وما تقوم به اليوم تشبع به حنيناً لمهنة عملت بها طيلة خمسين عاماً. مهنة تذكّرها «بالأحباب الذين فقدتهم، ومنهم ابن شقيقتي الذي توفي بقنبلة عنقودية قبل أن يحظى بهديته، والذي كان السبب الرئيس للعودة إلى ممارسة مهنتي».
لن تترك المهنة التي باتت الآن هواية، إلا عندما يخونها النظر.. و«ينقطع القش نهائياً». لم تتعلّم أي من بناتها مهنتها، كما تعملتها هي عن جدّتها ومن ثمّ والدتها، وخصوصاً «أن هذا الجيل لم يعد جيل العمل اليدوي». اليوم، تقضي أم رائف أيامها وحيدة في المنزل. تنظف منزلها وتطهو، وعندما تفرغ من الأعمال المنزلية تنصرف للعمل في صناعة القش أو للراحة عندما لا تساعدها «الصحّة اللي صارت على قدّها». لا تشكو من شيء إلا الوحدة وسكون المنزل الموحش، بعدما تزوج أبناؤها السبعة الذين غادروا القرية إلى «حيث الرزقة». لا يعود الصخب والدفء إلى ذاك البيت، المرمّم حديثاً بعدما دمّر العدو جزءاً كبيراً منه في الحرب الأخيرة، إلا يومي العطلة الأسبوعية عندما يعود أبناؤها وأحفادها. السيدة الوحيدة معظم أيام الأسبوع، هي الوحيدة أيضاً في مهنة صناعة القش، بعدما انقطعت النسوة عن العمل بها. أما السبب، فهو أن معظم النسوة لم تعد تستهويهنّ الأعمال اليدوية، وكذلك لعدم انتقال المهنة من جيل إلى جيل، وخصوصاً «أن جيل اليوم جيل كل شي سريع».


للذكرى

تقول سكنة غنوي، وهي اليوم المرأة الوحيدة التي تتقن صناعة القش، إن هذه «المهنة اندثرت ولم يعد الناس يقبلون على شراء أواني القش، باستثناء بعض الذين يبحثون عن صواني القشّ ليحتفظوا بها للذكرى». في المقابل، تأسف غنوي لأن بعض هذه المنتجات «سرقها الصهاينة عام 1948، أثناء ارتكابهم مجزرة حولا، من المنازل وعرضوها في متاحفهم».