زينب مرعي
تتربع على عرشها في ذلك البيت الكبير، كأنّها في استراحة محارب. أفراد أسرتها يحيطون بها. في «ديوانها» حيث جلسنا، يفكّر المرء في سرّه كم هي محظوظة نجاح سلام. لم تعرف الوحدة التي عاشها معظم فناني لبنان الكبار. منذ لحظات اللقاء الأولى، تتطابق صورة السيدة الجالسة أمامك، مع الصورة التي تكون قد كونتها صاحبة «برهوم حاكيني»، و«ميّل يا غزيّل» أو «يا جارحة قلبي»... امرأة قويّة من دون شك، لا تهادن. تحار من أين تبدأ معها. أتسألها بدايةً عن التاريخ العائلي، السياسي أم الفني؟ لا يهمّ، ستكتشف سريعاً أنّها ثلاثة روافد للحكاية نفسها.
جدّها الشيخ عبد الرحمن سلام، كان المدير الثائر «للكليّة الصالحية» في القدس، قبل أن يصير مفتي لبنان، وينجو بأعجوبة من مقصلة الحاكم العثماني. والدها عازف العود الشهير محيي الدين سلام، وأحد أبرز مؤسسي «الإذاعة اللبنانية» عام 1938، ورئيس القسم الموسيقي فيها. طريق محيي الدين سلام إلى الفن لم يكن سهلاً، في ظلّ معارضة والده المتديّن. لكنّ ذلك لم يجعله أكثر تفهماً لخيار ابنته، حين أظهرت ميولها الإبداعيّة. «في ذلك الوقت كان من العيب أن يغنّي أولاد العائلات»، تذكّرنا نجاح سلام.
لكنّ صاحبة الصوت الجميل التي بدأت تجويد القرآن ولما تزل في الرابعة، لم تكن ترضى لنفسها طريقاً أخرى. بقيت تغني في حفلات المدرسة بعيداً عن عيني والدها. كان هذا الأخير يسمعها تجوّد القرآن في الطابور، من نافذة غرفته المطلّة على ملعب المدرسة ويبدي إعجابه بصوتها، من دون أن يعرف أن صاحبة الصوت المميّز هي ابنته. والدتها كانت أول الذين دعموا مشاريع الشابة التي لم تبدِ اهتماماً بتحصيلها العلمي، أو بتأسيس عائلة. كان «الفونوغراف» كل ما يستحوذ على اهتمامها، يأخذها في رحلات بعيدة على جناح أصوات خالدة مثل السيدة أم كلثوم أو الموسيقار محمد عبد الوهاب.
ذات يوم من عام 1947، كان اللقاء الذي سيغيّر مجرى حياتها؛ إذ علمت أن محمد عبد الوهاب سيزور «الإذاعة اللبنانية» مع الأخطل الصغير. «وقفتُ مع الكورال وكنت غير مرئيّة، فرحت أقفز حتى تنبّه عبد الوهاب إلى وجودي وسأل والدي: مين البنت الصغننة دي؟». ثمّ سألها إن كان صوتها جميلاً. غنّت له «إيه جرى يا قلبي إيه» و«حسدوني»، فأعجب الموسيقار بها أيّما إعجاب وشجّعها، ما أعطاها دفعاً أساسياً في التمسّك بخياراتها الفنيّة.
كان أول ظهور لنجاح في عالم الطرب عام 1948 عندما غنت في إذاعة لبنان «وينه الحبيب وينه». وفي الإذاعة التقت الأخوين رحباني، فكانت بطلة أعمالهما الأولى قبل فيروز. وغنت من شعر بولس سلامة وألحان نجيب السراج «قصيدة فلسطين» سنة 1949. أما أول أغنية سجّلتها، فكانت «حوّل يا غنّام» التي لا تزال تقترن باسمها إلى اليوم. ثم يمّمت شطر مصر، على خطى نور الهدى، وصباح، ولور دكاش وماري جبران، فكانت هناك انطلاقتها الفعليّة في التمثيل والغناء مطلع الخمسينيات. كانت تعيش تناقضاً بين تربيتها العائلية والجو الفنّي، لكنها عادت فوجدت المعادلة الملائمة، ومثلت في 16 فيلماً، من «على كيفك» و«ابن ذوات» إلى «سر الهاربة» و«الشيطان»... خلال تصوير فيلم «السعد وعد» (1955) التقت الفنان اللبناني محمد سلمان (1922 ــــ 1997) الذي سيصبح زوجها. كان يؤدي يومها دور أستاذ اللغة الفرنسية الذي تزرع على كرسيه الدبابيس. سيعبر الاثنان أجمل سنوات الإبداع وأخصبها.
لها سيكتب صاحب «لبيك يا علم العروبة»، أغنية شهيرة ألهبت المشاعر عام 1973، خلال حرب تشرين فوق أرض الجولان: «سوريا يا حبيبتي (...) أعدت لي كرامتي، أعدت لي حريّتي، أعدت لي هويّتي...». انفصل الثنائي بعد علاقة طويلة أنجبا خلالها ابنتيهما سمر وريم وأعمالاً فنية مميّزة، لكن صلة الود ظلت قوية بينهما، وقد رافقته حتّى النهاية على فراش المرض.
تقول إنها التزمت تقديم أغنية لبنانية واحدة على الأقلّ، في كل فيلم لها. وقد غنّت كل الأنواع الفنيّة، من الشعبي إلى القصيدة، والمونولوج، والميجانا، والعتابا، إضافةً إلى الأغاني الوطنيّة. يرى بعض النقّاد الموسيقيين أنّها من القليلات بعد أم كلثوم، القادرات على التفريد في الغناء والإضافة إلى اللحن ثم العودة إلى اللحن الأصلي: «أعرف كيف أتعامل مع الجملة الموسيقيّة، وأضيف إليها على طريقتي. الفنان الماهر يعرف كيف يترك بصمته على الأغنية». في عام 1980، عدّها «مجمع اللغة العربية في مصر» أقدر فنانة عربية حافظت على النطق السليم ومخارج الحروف الصحيحة.
تتوقف نجاح سلام مليّاً عند الأغنية الوطنية، لارتباطها ربما بالحقبة الناصريّة. «فعهد عبد الناصر كان الأعظم، خلاله بلغت الأغنية الوطنية ذروتها. كان الريّس يرى أنّ أغنية على الشفاه أفضل من مليون جريدة أو صاروخ». تذكر لقاءها الأول به. كان ذلك خلال العدوان الثلاثي على مصر (1956) وهي تسجّل في الإذاعة «النيل مقبرة الغزاة» من شعر محمود حسن إسماعيل وألحان رياض السنباطي، الملحن الأقرب إلى قلبها. «التفتّ فجأة، فإذا بعبد الناصر يستمع إليّ في غرفة الكونترول، أوقفنا كلّ شيء وهرعنا لمصافحته». منحها عبد الناصر هي ومحمد سلمان الجنسيّة المصرّية. وفي سنوات المواجهة تلك، قال موشي دايان عنها: «هذا الصوت يهدد أمن إسرائيل». «ذلك الوقت كان للفن تأثير كبير على الناس»، تتحسّر صاحبة الحنجرة الذهبيّة. وتتالت الأغاني الوطنية التي غنّتها لمصر ولبنان وسوريا، وليبيا والجزائر... لديها، اليوم، نحو 200 أغنية وطنية في الإذاعة المصريّة.
بعد انتهاء الحرب اللبنانيّة، عادت «عاشقة مصر» إلى لبنان بطلب من الرئيس الراحل إلياس الهراوي، الذي منحها وسام الاستحقاق برتبة فارس. طوال هذه السنوات، فصلت المطربة الكبيرة بين حياتها الشخصيّة وصورتها العامّة، حتى بدا الجانبان متناقضين ـــ ظاهريّاً فقط ـــ في بعض الأحيان. ارتدت نجاح سلام الحجاب منذ أكثر من عقد، لكنّها لم تعتزل الفن. قدّمت أخيراً أغنية «لك السلام يا قطر»، وهي تعدّ لنشيد جديد تعلنه قريباً.


5 تواريخ

مطلع الثلاثينيات
الولادة في بيروت

1948
غنّت في الاسكتشات الأولى للرحابنة، وسجّلت أولى أغنياتها «حوّل يا غنّام»

1955
في مصر التي انتقلت إليها مطلع ذلك العقد، التقت الفنان اللبناني محمد سلمان خلال تصوير فيلم «السعد وعد» فتزوجا

1993
قلدها الرئيس اللبناني الراحل إلياس الهراوي وسام الأرز، وبعد 15 عاماً سيمنحها الرئيس الجزائري بوتفليقة «وسام المليون شهيد»

2010
خفّت إطلالاتها ونشاطاتها الفنيّة منذ
الحرب الأهليّة اللبنانيّة، لتعود إلى الظهور خلال السنوات الأخيرة، وهي تعدّ حالياً لنشيد جديد