عندما يحلّ العيد على طرابلس يقلبها رأساً على عقب. يصل الازدحام إلى ذروته فتتحوّل الشوارع إلى «كاراجات» للسيارات. هذا في الظاهر، أما المشهد الحقيقي، فينطوي على انقسام عمودي حادّ بين الناس
طرابلس ــ عبد الكافي الصمد
كما في كل عيد، تنقسم صورة الاستعدادات في طرابلس على مشهدين رئيسيّين، يعكسان التوزع الجغرافي للأحياء والشوارع والأسواق. الأول تبدو عليه معالم الثراء والتنظيم، والثاني لا يخفي الفقر والفوضى.
يكاد البولفار الممتد من مدخل طرابلس الشمالي إلى مدخلها الجنوبي يشق المدينة نصفين. هو أشبه بـ «خط التماس» يفصل بين المشهدين، حيث يلحظ المرء سريعاً الفرق بمجرد التوغل يمنة أو يسرة، حتى لو كان يزور المدينة للمرة الأولى.
لا تعكس مثلاً شوارع المعرض والميناء وعزمي والمئتين الانطباع عن طرابلس في وسائل الإعلام، لا انتشار لمظاهر الأصولية والفقر، الشوارع عريضة ونظيفة ومنسّقة، مقاهي الرصيف «بريستيج» أساسي لنمط عيش روّادها من أبناء الطبقة الميسورة في المدينة ومناطق شمالية أخرى.
حتى طقوس استقبال العيد مختلفة هنا. فالمحال التجارية لا تفتح أبوابها قبل العاشرة صباحاً، والسبب أنّها تسهر حتى ساعات الصباح الأولى. أما المتسوقون، فيأتون إليها في سيارات فارهة، «يكزدرون» فوق أرصفة عريضة وأنيقة. «يتفرّجون» بهدوء على السلع المعروضة بإتقان خلف الزجاج، قبل الشراء. للتسوّق مظاهر إضافية، فلا بسطات خارج حدود أيّ محل ولا أمامه في عرض الشارع، أما العربات الجوالة التي تبيع الكعك والعصير، فلا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. شرطة البلدية تحرص على عدم انتشار الفوضى، فللمكان «قيمته» من خلال محاله ورواده كأنّه لا ينبغي، بنظرهم، أن تقترب منه معالم الفقر من المقلب الآخر.
في فترة ما قبل الظهر، معظم المتسوقين هم من الجنس اللطيف، فتيات ونساء. يجلسن فرادى أو «كوبلات»، كما يندر أن تجد بصحبتهن أولاداً صغاراً. تدخل إحداهن محلاً لبيع الأحذية النسائية، يتبين من التسعيرة الموضوعة على واجهته أن سعر «زوج» الأحذية فيه يكاد يعادل الحد الأدنى للأجور!
تترك المكان وتجتاز ساحة التل لتدخل في عمق المناطق الشعبية والأسواق القديمة، فتنقشع أمامك صور مغايرة تماماً لما رأته عيناك للتو في الجانب الآخر من المدينة. هنا تضيق الشوارع وتعم البسطات التي تعرض سلعاً وبضائع «أشكال وألوان» في الساحات والأرصفة والشوارع، ولا سيما في الأيام الأخيرة قبل العيد. البلدية تغض النظر عن الفوضى والازدحام وصراخ الباعة والضوضاء، وإنّ كانت مكبرات الصوت التي تبثّ «التكبير» هي ما يميّز العيد في طرابلس.
المشاهد تدل على سكان المنطقة وروّادها معاً. فأكثرية النساء اللواتي يتسوّقن يأتين من الأرياف القريبة، فقلما تجد فتاة أو امرأة وحدها في الأسواق، فلا بد أن تصطحب معها بناتها. تقرر إحداهن أن «تتفرج» قبل أن تشتري، «شو أنا كل يوم بنزل عالسوق»، تقول لوالدتها بتأفّف، فترد عليها أمها: «ما بدنا نبرم كتير، مصرياتنا على قدنا، من هلق حسبوا حسابكن».
على عكس الناحية الأخرى، لا يغيب هنا مشهد اصطحاب الأمهات لأولادهن، فتحمل إحداهن رضيعها على يدها، وتمسك آخر بيد أخرى وتجر خلفها ولدين يمسكان بيدي بعضهما بعضاً وتلتفت إليهما وتقول: «خلو إيديكن بإيدين بعض، وخليكن ورايي». يقف أحد الأولاد أمام عربة لبيع «عرانيس» الذرة ويقول لأمه: «بدي عرنوس»، فيتدخل البائع وهو فتى لم يتجاوز الـ15 من عمره ويقول: «خلي الولد يشتري ونحن نعيّد، الله يخليكي!».
الأسعار تدل على نوع البضائع وعلى الزبائن أيضاً. سعر البيجاما النسائي 10 آلاف ليرة و«الولادي» 7 آلاف، كما يشير الإعلان المرفوع على واجهة المحل، ومع ذلك تبقى هذه الأسعار مرتفعة عما هو موجود في خيم وبسطات وضعت فوق سقف نهر أبو علي المشيّد حديثاً.
وسط الغبار المنبعث من الشوارع بسبب الأشغال، تبث مكبّرات الصوت من داخل إحدى الخيم التي تبيع ألبسة وأحذية من «البالة»: «كل جزمة نسواني أو ولادي بـ5 آلاف ليرة، وكل قطعة ولادي بألف ليرة، قربوا». بحسبة بسيطة، فإن تكلفة «عيدية» أي ولد هنا لا تتجاوز 10 آلاف ليرة!
في الأسواق الشعبية والقديمة داخل طرابلس، تنتشر البسطات على نحو واسع، وهو أمر يشكو منه التجار وأصحاب المحال. وقد لجأ كثير من هؤلاء إلى نصب بسطة أمام محله، وسلّمها إلى أحد أبنائه أو العاملين لديه. هذا الحل بدأ بالتوسّع بعدما لمس بعض التجار أنّ مردود البسطة يفوق أحياناً مردود المحل، لكن أصحاب البسطات لم يعدموا وسيلة للاسترزاق، إذ إن تأهيل الأسواق القديمة لحظ توسعة واضحة في الأرصفة، ما حوّل هذه الأخيرة، خلال الأعياد تحديداً، إلى أمكنتهم المفضلة.