أنسي الحاج
شهود زور
التاريخ يبدأه الواقع ويستكمله الفكر. وغالباً ما يجرف الفكرُ الواقع. المؤرّخون أسياد الذاكرة يتصرّفون بها على قدر الطاقة وبحسب الميل. الذي ابتكر عبارة «المارونيّة السياسيّة» ليس مؤرّخاً لكن عبارته دخلت التاريخ، ومثل كل العناوين باتت غلافاً لمضامين مختلفة ومتناقضة. التاريخ سلْطة في الثلّاجة يحرّكها الطبّاخون بحكم الضرورة. حين يُقال أمام حدث ضخم «ها نحن نعيش التاريخ وهو يُصنع!» يُقال من باب المبالغة. ولا مرّة يُصنع التاريخ أمامنا. صناعته جذورها وراءنا تُستعمل فروعها أمامنا وعلى حطامنا. تستعاد فروعها وجذورها أو تُخترع أو تُزوَّر. التاريخ بالنسبة إلى الحاضر، في السياسة خصوصاً، هو دائماً ذريعة. نهاجم الطائفيّة، لكن التاريخ هو أسوأ من الطائفيّة على صعيد الاستعمال الغرائزي لقتل الشعوب. استعادة الأمجاد ذريعة تاريخيّة. المدى الحيوي ذريعة تاريخيّة. التفوّق العرقي ذريعة تاريخيّة. الاستعمار الثقافي ذريعة تاريخيّة. التمثُّل بالغزاة «التاريخيين» ذريعة تاريخيّة. أرضُ الميعاد ذريعة تاريخيّة. الامبراطوريّة العربية والإسلاميّة ذريعة تاريخيّة. الحرب على الإرهاب ذريعة تاريخيّة. بطن التاريخ السياسي والعسكري لم يحبل إلّا بالذرائع ومحطّاته مجبولة بالدم. وحقائقه معظمها أكاذيب وشهوده شهودُ زور ولو صَدَقوا.


الحريّة والطغيان
الغزال يهرب أمام الصيّاد: الغزال أرقى من الصيّاد. الإنسان يهرب أمام الوحش: الإنسان أرقى من الوحش. الرحيم يلين أمام القاسي، والرحيم أفضل من القاسي، لكنّ الرحيم الذي لا يخطئ في المطلق بتراجعه يخطئ في النسبي، لأن القاسي يأخذ منه بالفظاظة ما لا يستحقّه بالعدل.
الحرّ أيضاً. الحريّة، باسم نفسها، تتراجع أمام الطغيان، لأنّها تقيس الخطى بنفسها، بأثمان نفسها، والطغيان لا يفْقه ذلك. الحريّة ارتداديّة والطغيان توسّعي. قد تمرّ الحريّة بموجة انفلاش ثم تهدأ. الاتجاه فيها هو إلى المحافظة على ذاتها. لذلك تنكفئ وهي تحسب أنها استقرّت ولن تتراجع.
على صعيد السلطة، يبقى الحكم ثابتاً ممسكاً بالرقاب ما دام يمارس نفسه كما لو أنه أوّل يوم. بل كما لو أنّه لم يبدأ وما زال في طور التحفُّز. البراهين: أنظمةُ الحكم العربيّة.
على الصعيد الفردي نجد الشواهد في علاقاتنا الشخصيّة والمهنيّة: الفاجر يأكل مال التاجر.
والتاجرُ مالَ المستهلِك.
والمستهلِكُ دمَ مَن تَحْتَه.
والرجلُ حقّ المرأة، وكلاهما حقّ الطفل، والطفل حقّ أخيه...
... وأخوه حقّ نفسه.


تكريم
تتوالى حفلات التكريم والدروع والدكتوراه الفخريّة، وأخيراً إقامة التماثيل. مبادراتٌ طيّبة بقدر ما هي فارغة. لم نبارح بعد حقل المجاملة. الكاتب ـــــ مبدئيّاً ــــ يقدّم فكراً وقلماً، ومحيطه يشكره باستقبال المهنّئين.
آخر المبادرات احتفاءُ اتحاد الكُتّاب بعشرات الأدباء أمواتاً وأحياء. التفاتةٌ مشكورة من الأمين العام الجديد الذي لا ريب في حسن نيّته، لولا هذا «التكريم» بالجملة.
شخصيّاً نالني من الاهتمام أكثر ممّا أستحقّ. وأرجو مثله للآخرين: الدراسة والنقد. آن لنا أن ننتقل من العادات الاجتماعيّة العابرة إلى الإثبات التاريخي الموثّق للتراث اللبناني (بل العربي كلّه) حقبةً إثر حقبة، ترسيخاً وشرحاً وتحليلاً ومقارنةً ونقداً وتقييماً، إلى النبش والتجميع والنشر وإعادة النشر، حيث جَمْع العلْم المختبري والأكاديمي إلى حسّ الكشف وهاجس التوغُّل وواجب الإنارة، فنخرج من البداوة والارتجال والاعتباطيّة إلى المسؤوليّة الجليلة، ومن السطحيّة والإهمال والفئويّة والذاكرة السياحيّة إلى التعامل مع أدبنا تعاملاً جديّاً حيث يستحقّ، على يد مَن يَقْدر ويستحقّ. وهكذا يتكوّن لنا تأريخ أدبي (وفنّي وفكري) نفتقر إليه، وبدونه تظلّ حياتنا الأدبيّة قفزاً في البراري، ومقياس المقارنة مفقوداً، والمستقبل مغلَقاً تبعاً لانغلاق الماضي.


الهالة
ـــ من هو الصديق؟
ـــ الذي تضايقه ويُطَمْئنك.
ـــ هل هناك صديقة؟
ـــ تلك التي بقيَتْ رغم الحبّ الذي كان بينكما.
ـــ ما هو الحبّ؟
ـــ هو عندما تنظر إليها فيؤلمك جمالها.
ـــ ألا يهبط التأثير بعد تكرار النظر؟
ـــ الوجهُ المعشوق محاطٌ بهالة سحريّة والوجه المحاطُ بهالة سحريّة معشوق.
ـــ من أين تنبع الهالة؟ من العينين؟
ـــ من كبْتٍ قديم حَوّله الشوق إلى شمسٍ سجينة في الأعماق.


لسبب مجهول
لو جلسنا نحصي عدد الذين أثّروا في حياتنا تأثيراً مصيريّاً فهل نجد مفاجآت، أم نكتشف أنّها كانت كلّها منطقيّات حتميّة؟
سؤال خاطئ. أصحّ أن نبحث عن معنى آخر، فالمصادفات، مصيريّة أم سطحيّة، ستبدو كلّها، بعد الحصول، منطقيّة حتميّة. الغريب يصبح مترابطاً عندما نستعرضه كشريط. الجلوس في مقعد الذاكرة يريك كم كانت لحظات هلعك ودهشتك ساذجة. الأشياء كانت معدّة في غرفة التوزيع.
ومع هذا كلّ مرّة أوّل مرّة وكلّ مولود يُنشئ الحياة من جديد. والمعلوم يعود مجهولاً والمرسومُ اكتشافاً.
ولكنْ، لسبب مجهول، يخامرنا ظنّ بأن الشخص الذي يترك فينا لقاؤنا به علامة، هذا الشخص ليس بمثل سذاجتنا ولا هو بريء تماماً. لا مذنب ولا متعمّد، إنّما فقط أكثر إمساكاً من الطرف الآخر بمقاليد اللعبة...
بعضهم أقرب من بعض إلى مصادر القَدَر.


بَعْد، بَعْد
بَعْد، بعد.
لا نرى وجوههم. نسمع، فقط. بَعْد، بعد. على حافة الغيبوبة. بلا أصوات بشريّة. الموسيقى الغربيّة، المسمّاة كلاسيكيّة، يشوّهها الصوت البشري. أصوات الأوبرا ضريبة الموسيقى. الموسيقى العربيّة، المسمّاة شرقيّة، لا تُحْتَمل بدون صوت بشري. هناك الصوت يعرقلها، يذبحها، وهنا يحلّق بها ويُتوّجها. هناك يغسلها اللحن وهنا تغسله.
لنعد إلى الموسيقى، الموسيقى وحدها، الأوركسترا الأوقيانوس، سفينة البيانو المحاطة بملائكة الكمنجات. هدير الآلهة الزرقاء، آلهة الهدهدة والأهداب.
هناك ما يقتفي أثر الأشياء التي تذهب. لا أحد يمتلك شكله. الأشكال تملكها العينان. العينان تملكهما الذاكرة. الذاكرة يملكها فضاء لا نريد أن نعرفه. يكفينا أن نتوكّأ على كتفه الغائرة في الضباب.
هناك ما يقتفي أثر الأشياء التي تذهب. هل تُراهن؟ الأشياء التي ذهبت كانت أفضل ما فينا. الذَّهَب هو الذي ذَهَب. الذهب يبقى. أمانة في عنق الضمير المستتر.