انصهاره بالعود خلاصة تجربة عمرها نصف قرن. عزف في مسارح العالم، ولحّن لبعض كبار الأغنية العربية، وما زال يبحث عن مساحات جديدة، ساعياً في الوقت نفسه إلى إنقاذ التراث الموسيقي اليمني من محاولات السطو على اختلافها

جمال جبران
نستمع إلى عزف الفنان اليمني أحمد فتحي على العود. ندرك، من النغمات الافتتاحية، أنّه في الطريق إلى غناء «صنعانية»، من شعر عبد العزيز المقالح. «صنعانِية مرّتْ من الشارع غَبَش (أول الصبح)، كان الزمن ظمآن، والفجر اشتكى نار العطش. لكنها لمّا مشت، سال الندى والورد فتّح وانتعش». يذهب سمعنا إلى مستوى آخر: النظر. إنّه العزف هنا، وقد نجح في تحويل الكلمات إلى صور متحركة. نرى الصنعانية فعلاً، وهي تهبط برقّة من الأغنية، لتمرّ على الشارع، محدثةً فيه ما أحدثت. من أين يأتي هذا اليقين؟ ينتهي الفنان من أغنيته مبتسماً، كأنّه فطن لما جال في خلدنا. «عندما نصل إلى نقطة التوحد مع العود، تصير هذه الآلة قادرةً على إخراج ما لا يمكن تصوره. لم يخذلني العود مرة واحدة، أحادثه، أشكو إليه، وهو ينصت لي، ويرد على تساؤلاتي كأي صديقين». لكنّ بلوغ هذا الانصهار والتماهي لم يحدث بكبسة زر، بل هو خلاصة تجربة بدأت منذ أربعين عاماً، في مدينة الحديدة اليمنيّة على البحر الأحمر.
لم يعثر الطفل أحمد فتحي أو فتّاح (اسم عائلته الحقيقي) على مبتغاه من كل الألعاب التقليدية المرصوصة أمامه. كانت في رأسه لعبة أخرى بأوتار، تنادي على أصابعه. كان يضع لعلب الزيت أو غالونات الماء الفارغة، يداً خشبية، تمتدّ عليها أسلاك رفيعة. آلة عود في شكلها البدائي ذاك، لم تلبث أن صارت حقيقة. صار ابن الأعوام الثمانية مولعاً بها حد الهوس، يرافقها ليل نهار. منذ ذلك الحين، قرّر أن يكون عازف عود، من دون أن يكترث لرأي أحد، خصوصاً رفض أبيه المنحدر من أسرة أشراف، ترى في الموسيقى عيباً، لا ينبغي أن يرتبط باسم العائلة.
لم يكن العازف الصغير يفقه شيئاً من هذه المسائل الكبيرة، ولم تكن تعنيه إطلاقاً. هكذا، ازداد تعلقاً بعشقه الأوّل، ليصبح في العاشرة مطرب الحي والمدرسة. استمر على هذه الحالة إلى حين وقوعه على فرصة ستغيّر حياته تماماً. كان ذلك حين جاء الفنان العدني أحمد قاسم ـــــ أحد كبار الموسيقيين في اليمن والجزيرة العربية ــــــ إلى الحديدة لإحياء حفلة غنائية. اقتنص الصغير الفرصة، وذهب إلى الفندق حيث نزل قاسم، بعدما استعلم عن مكان إقامته. التقاه فعلاً، بعد انتظار طويل، وطلب منه أن يسمع عزفه. «حدثني في البداية بشيء من المزاح، لكنّه ما أن سمع عزفي، حتى تبدلت نبرته». أخبره قاسم بعدها أنّه يمكنه أن يصير فناناً معروفاً، لكن عليه أن يهرب من هذه المدينة. «قال لي بالحرف الواحد: اهرب إلى عدن». كان هذا في وقت كانت عدن، عاصمة اليمن الجنوبي حينها، مقصداً لعشاق الغناء والطرب. لم يتوقّع أحمد قاسم أن يعمل ابن الثانية عشرة بنصيحته. وإذا به يجده بعد أيام واقفاً أمام باب منزله في عدن! «استضافني، وعاملني كواحد من أولاده، ولم يبخل عليَّ بشيء. أدين بالكثير لهذا الرجل العظيم».
اعتبره الموسيقي المصري عمار الشريعي واحداً من أهم عازفي العود في العالم
كرّس وقتاً للتدريبات المنتظمة مع قاسم، إلى أن جاءت فرصته الذهبية: حفلة غنائية يشارك فيها فنانان من عمالقة الغناء العدني، هما محمد مرشد ناجي ومحمد سعد عبد الله، إضافةً إلى أحمد قاسم. اقترح هذا الأخير إشراك فتحي في الحفلة بصفته نجماً صاعداً، وهذا ما كان. نجح في حفلته، ووجد نفسه مضطراً لتكرار فقرته لأكثر من مرة، نزولاً عند رغبة الجمهور المحتشد. في صباح اليوم التالي كان «الطفل المعجزة» حديث المدينة، وخبراً رئيسياً في الصحافة العدنية. عندما وصل الخبر إلى الحديدة، أدرك والده أن ابنه جاد في ذهابه مع العود حتى النهاية، ما جعله يُرسل إليه، طالباً عودته إلى البيت، فعاد.
تتالت هدايا القدر على عازف العود الصغير. حضر وزير المعارف حينها أحمد جابر عفيف، حفلةً له، وكان عفيف أحد قادة التنوير في اليمن الشمالي سابقاً. الأداء اللافت الذي قدّمه، دفع الوزير المستنير إلى تسهيل حصوله على منحة دراسية في القاهرة. «كنتُ أول طالب يحصل على فرصة لدراسة الموسيقى. كانت المنح المتعارف عليها في اليمن تشمل الطب والهندسة والعلوم الأخرى فقط».
وسافر الفتى، وتدرج في دراسة الموسيقى أكاديمياً، ثمّ نال الماجستير، وصار مُدرِّساً في المعهد الذي كان طالباً فيه. في الاتجاه العملي، كان يعرف أن القاهرة مدينة صعبة، وليس من السهل وضع اسمه في قائمة فنانيها. من هنا أدرك ضرورة تميزه كي يصل إلى مبتغاه... وليس غير العود ما سيمكنه من ذلك. أراد العزف بطريقة لا تشبه أحداً، وتقديم آلته بنحو لم يألفه عشاقُها. نجح في هذه التركيبة، فصار رقماً صعباً على الساحة، حتّى قال عنه الموسيقي المصري عمار الشريعي: «أحمد فتحي واحد من أهم عازفي العود في العالم».
لكنّ فتحي لم يتوقف عند هذا الحد، إذ أنتج ألبومات غنائية لاقت نجاحات لافتة، إضافةً إلى تأليف مقطوعات موسيقية. لحّن لكبار الأغنية العربية، منهم وديع الصافي، وأبو بكر سالم، ولطفي بوشناق، وسميرة سعيد، وطلال مدّاح. عزف في دور أوبرا بين القاهرة، وباريس، وسيدني، وطوكيو، وأوتاوا، وأقام حفلات في واشنطن ومدريد. خلال كل هذه التنقلات، لم يتوقف عن البحث واكتشاف مساحات أخرى جديدة في آلة العود وتوثيق علاقته بها. كما قدّم مقاربات جديدة للجملة الموسيقية اليمنية التي تمتلك من الثراء والعمق ما يغري الآخرين بإعادة تشكيلها ونسبها إليهم. «ما يحصل اليوم للموسيقى اليمنية وتراثها من سطو واعتداء قد وصل حداً لم يعد السكوت معه ممكناً»، يقول فتحي، موضحاً أن أرشفة هذا التراث وتوثيقه، صار ضرورة مُلحة. لهذا، بادر إلى إطلاق مشروع أرشفة هذا التراث الضخم رقمياً.
على هذا تمضي حياة «ملك العود» كما يُلقّبه كثر، رغم أنّه يفضّل وصفه بالفنان اليمني. بين أسفاره الكثيرة، يبقى اليمن محطة دائمة. عندما سألناه عن سبب تمسكه بالجنسية اليمنية، بعكس فنانين نالوا جنسيات أخرى، أظهر استغرابه من سؤالنا. «اليمن وطني، فهل أُسأل عن تمسكي بجنسيته؟» صمت قليلاً ثم أضاف: «اليمن مقيم في داخلي».


5 تواريخ

1962
الولادة في الحديدة (اليمن الشمالي آنذاك)

1974
سافر إلى القاهرة لدراسة الموسيقى

1998
حصل على الماجستير وحملت رسالته عنوان «دور العود في مصاحبة الغناء اليمني»

2006
نال دكتوراه فخرية من «جامعة الحديدة» في اليمن

2010
أطلق مشروع الأرشفة الرقميّة للتراث الموسيقي اليمني