رغم أن منطقة «الظريف» ليست كبيرة، ومساحة البحث لا تتعدى 100 متر، فقد استغرق الأمر أكثر من ساعة للوصول إلى اللوحة التذكارية التي توثّق أولى عمليات المقاومة الوطنية اللبنانية التي نُفّذت قرب «محطة أيوب». كان صعباً على كثيرين من قاطني المنطقة، حتى القدامى منهم، تذكّر اللوحة أو العملية العسكرية. ببساطة، اللوحة «مطموسة» بالإعلانات. والذاكرة، هي الأخرى، «مطموسة» بالأحزاب الجديدة
أحمد محسن
تشبه الرحلة إلى لوحة محطة أيوب، في بدايتها، «الوصول إلى مدينة أين» للشاعر العراقي الراحل سرجون بولص. صاحب الدكان القريب من اللوحة سمع بشيءٍ مشابه، لكنه لا يتذكر أين بالضبط. يستغرب السؤال من أساسه، لكونه يسكن المنطقة منذ خمسة وعشرين عاماً. يشير بإصبعه إلى الطريق المؤدية إلى منطقة مار الياس صعوداً قائلاً «ربما فوق». لكن لا شيء «فوق»، إلا الإعلانات التي تسابق الأشجار في الارتفاع، وطبعاً سيلٌ من السيارات الهاربة من زحمة شارع الملا. وفي النزلة المقابلة للمحطة، يستريح رجل سبعيني على كرسي خشبي قديم، أمام محل لإصلاح الأحذية. الشيب في رأسه يبعث على التفاؤل، فاللوحة قديمة والمعركة أقدم. يفرك الإسكافي المتعب ذقنه ببطء محاولاً الاستفهام عن ماهية اللوحة. تتبادر إلى ذهنه لوحات الأحزاب الطاغية على المنطقة حالياً، فيسأل: لوحة للحركة هيي؟ قاصداً حركة أمل. نجيبه بالنفي، فلا ينفعل إطلاقاً، وخصوصاً أنه يبدو من النوع الذي لا تلمع عيناه إلا نادراً. يضمّ شفتيه معلناً استسلامه، ويطلب منا العودة إلى المحطة. وعلى الطريق، يهمّ ستيني آخر بركن سيارته على ناصية الطريق. يحبّذ «أبو وائل» فكرة وجود لوحة تذكارية لرجال المقاومة، بيد أنه لم يرها في حياته. وما يلبث أن يعترف بأنه ليس من سكان المنطقة، وأنه يزور قريباً له، قادماً من الضاحية الجنوبية. صعوداً باتجاه المحطة مجدداً، وقبلها بقليل، يختبئ مفترق فرعي. يستكين كهلان في أحشائه، متظللين بشجرة، تعرف المكان أكثر من جميع سكانه. يفيض وجه الرجل بالسرور حين يعلم السؤال. لم يسأل أحد عن تلك اللوحة منذ زمن. يبتسم الرجل إلى جانبه قائلاً: «لوحة خالد علوان؟». يبدو أن عملية الويمبي، مقهى الويمبي في الحمرا، طغت على ذاكرته. المهم في الأمر أن ابتسامة الرجل بدّدت الشك في اختفاء اللوحة. ثم يرشدنا إليها بدقة. وهنا المفاجأة: اللافتة داخل المحطة. تحاول التأكد من أحد المارة، فيتسمّر في مكانه محاولاً التذكّر، ثم يرسم ابتسامةً أعرض من ابتسامة الكهل قرب محل السمانة. إنه يتذكر العملية: «في تلك الفترة، كانت مجزرة صبرا وشاتيلا تلقي بظلها على بيروت كلها». رائحة الموت في العاصمة الجريحة كانت السبب في توالي العمليات ضد المحتل. يذكر علي شمس الدين، المار صدفة في المكان، أن الجو الذي تلى المجزرة سرّع وتيرة عمليات المقاومة في تلك الفترة. ومن باب الصدفة أيضاً، كان له حصة من تفاصيلها، حصل عليها من صديق قديم، شارك في استطلاع الموقع الإسرائيلي الموجود في برج المر، الذي كان ملاحظاً بسهولة من منطقة الظريف في تلك الفترة، قبل أن تغزو المباني المنطقة بغزارة. يتحدث علي عن آليات ودبابات وناقلات جند مدرعة كانت تقف أمام البرج، وفي جميع بيروت. المهم في الأمر أن علي يرسم بدقة تفاصيل الموقع الإسرائيلي الذي كان موجوداً في محطة أيوب، أي موقع اللافتة تماماً، الذي يقع على مدخل منطقة زقاق البلاط الغربي. كان هناك دبابتان وناقلتا جند، إضافة إلى دبابة أخرى في زاروب إلى جانب المدرسة (الموجودة حتى الآن). كانت العملية بسيطة، لكنها موجعة للإسرائيليين، إذ ضرب المقاومون (مجموعة مؤلفة من 3 مقاتلين) جميع آليات جيش الاحتلال في الوقت نفسه، مستعملين الأسلحة المتوافرة آنذاك، والمتمثلة في القذائف الصاروخية «بي سفن». حدث ذلك من مفترق نادي الهومنتمن، ووضعت اللافتة لاحقاً لتوثيق العملية.
جائزة لمن يعثر على اللوحة التذكارية لعملية المقاومة الوطنية
إلى محطة أيوب در. صاحب الدكان المجاور نفسه يبدو أننا شغلنا باله بالسؤال، فيبادر ما إن يرانا مطمئناً إلى نتيجة البحث. وحين يعلم أن اللوحة في المحطة، يقطع الحديث قائلاً: قصدك البلاطة؟ هكذا يشير إليها. يتضح في ما بعد أن تسمية الرجل المجحفة ليست عبثية. ففي أقصى المحطة، إلى جهة اليمين، تستقر لوحة رخامية صغيرة، اختفت خلف لوحة ضخمة لأسعار المحروقات. هنا، «تلبيةً لنداء 16 أيلول 1982، نفّذ رجال «جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية»، مساء 22 أيلول 1982، هجوماً عسكرياً ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي دخلت بيروت عنوةً. ولأجل ذكرى هؤلاء الرجال المجهولين، رفعت هذه اللوحة بتاريخ 16 أيلول 2001».
اليوم، بعد أقل من عشر سنوات من رفعها هناك، لم تختفِ اللوحة تماماً. هكذا «تكتشفها» حرفياً، تومض بخجلٍ بفضل أشعة الشمس، خلف اللوحة العملاقة، دليلاً على وهن ذاكرة المدينة التي تكاد تنسى وجهات البنادق. لكنّ الجدران، للأسف، لا تنطق، والذاكرة، وإن كانت من الألماس، تحتاج إلى الضوء كي تسطع.
يشعر مدير المحطة، حسام أشمر، بالحرج. يقرأ اللوحة محاولاً الاستفسار عن مضمونها، فيكتشف أنها تخص المقاومة الوطنية. يسارع إلى القول إن الإعلان الضخم الذي يحدد أسعار المحروقات وُضع حديثاً، قبل 15 يوماً، وإنه لم ينتبه إلى اللوحة قبلاً، محيلاً الأمر على صاحب الشركة. ويستفيض أشمر شارحاً أنه من الجنوب، و«يعرف المقاومة جيداً». تنسحب علاقة أشمر الإيجابية بالمقاومة على صاحب الشركة. لكنّ الأخير كان أشد وضوحاً، إذ اعترف بأنه رأى اللوحة، خلال قيام العمال بلصق الإعلان، لكنه لم يستطع نزعها من مكانها ونقلها إلى مكان آخر. استبعد فكرة إزاحة لوحة أسعار المحروقات نهائياً (!) طالباً من «أصحاب اللوحة التذكارية» المجيء إلى المحطة للتنسيق معهم في كيفية نقلها إلى مكان ظاهر ولائق، لا يمانع أن يكون ضمن المحطة. وفي هذا السياق، لفت عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي، رباح شحرور، في اتصال مع «الأخبار»، إلى أن الحزب سيوفد اليوم من يتابع الموضوع مع صاحب المحطة.
ذلك أن أصحاب اللوحة التذكارية هم «هؤلاء الرجال المجهولين».