3 محال تنجيد في بعلبك ومحل واحد في الهرمل وآخر في الكرك. 5 محال في منطقة بعلبك - الهرمل كلها للتنجيد. عدد قليل جداً لمهنةٍ كانت فيما مضى هي الأبرز في تلك المنطقة، لكنه، سيصبح أقل بعدما أعلن الشقيقان عبدو ويوسف الشيخ علي إقفال محلهما في السوق العتيق في بعلبك. قرار لن يكون الأخير في مسيرة مهنة التنجيد، فبعد بضع سنوات، قد نسأل عن المنجدين، فنقول عندها «وينن؟»
البقاع ــ رامح حمية
«المحل برسم البيع». كتبت العبارة على باب محل تنجيد الصوف في سوق بعلبك القديم. ربما لم تؤثر تلك العبارة بالعابرين أمام ذاك المحل، لكن عندما علّق الشقيقان عبدو ويوسف الشيخ علي هذه العبارة شعرا بأنهما يفقدان شيئاً عزيزاً الى الأبد. شيء ما انقطع مع ماضيهما، فها هي المهنة التي تعلماها من الوالد منذ خمسين عاماً تذهب، بالرغم عنهما، إلى غير رجعة.
هكذا، ولولا إصرار بعض القرى، ولأسباب اقتصادية، على فرش الصوف والقطن، لأمكن القول مع عبدو إن «حرفة ندف الصوف وتنجيده ماتت». وإنه بات إجباريا ًالتخلي عنها، إثر غزو الفرش الصناعية للبيوت، وهي فرش لا شيء يثبت أنها أفضل من «فرشاتنا» الصوف. في السوق العتيقة في بعلبك، حيث كانت النساء يقصدن المنجدين على عتبة الشتاء والصيف من أجل إعادة تنجيد الفرش، يقضي الشقيقان وقتهما المتبقي في المحل الذي سيقفل قريباً جداً. يستذكران «إيام ما كان السوق يحوي ما يقارب العشرين محلّاً للتنجيد، فضلاً عن المحال المنتشرة في باقي القرى والبلدات في بعلبك – الهرمل». خمسون عاماً مرت على هذه الذكرى ووصل الشقيقان إلى اليوم الذي باتت فيه المحال تعدّ «على أصابع اليد الواحدة». اليوم لا يوجد في منطقة بعلبك – الهرمل «إلا 3 محلات في بعلبك وواحد في الهرمل وآخر في الكرك» تلبّي طلب من ما زال يعتمد فرش الصوف، يقول يوسف». حتى هذه المحال «لن يطول عمرها كثيراً وستقفل قريباً، لأنو اليوم هيهات يجيك زبون»، يتابع. قليل من بقي محافظاً على هذه المهنة، وهم «بعض العائلات التي تهتم باقتناء فرشات ولحف الصوف الطبيعي». إلا أن هؤلاء لا يستطيعون الحفاظ على المهنة «فعددهم قليل، وإن أرادوا فتح محال فيحتاجون للمال». ويسأل «كيف سيشترون أو يستأجرون محلّاً إن كانوا يقضون أسبوعين كاملين عاطلين بانتظار تنجيد لحاف يكلف 25 ألف ليرة فقط؟».
يترحّم عبده الشيخ علي، على «أيام عز» هذه الحرفة، عندما كانت الطلبات تصل إلى «مئة فراش ولحاف ومخدّة تطلبها الفنادق في بيروت وزحلة وباقي المناطق اللبنانية، وكانت من أنواع الساتان الفاخر». أما اليوم؟ يتابع عبده «فالشغل واقف، ومتل ما أنا عارض محلي للبيع، كمان جيراني بدهم يسكّروا وعارضين محلاتهم للبيع».
ويرى الستيني ابن بلدة الفاكهة في البقاع الشمالي، أن التنجيد ليس المهنة الوحيدة التي تتجه الى الانقراض «فالحرَف القديمة على أنواعها تندثر الواحدة تلو الأخرى، والسبب يعود إلى غياب عنصري الاهتمام والحماية من قبل الدولة للحفاظ على هذه المهن وأصحابها بما يمثلونه من خصوصية محلية». ناحية واحدة اهتمت بها الدولة، وهي غير كافية، وتنحصر بـ«الإعفاء من دفع رسم الحراسة للبلدية، وهو عبارة عن مبلغ ستين ألف ليرة في السنة، والبلدية الحالية لم تتخذ بعد القرار بشأنه»، يقول. هذه اللامبالاة، و«الطفرة» الاستهلاكية تسببا بانقراض المهنة التي كان العامل يقضي نهاراته وهو يندف وينفش وينجد الصوف الطبيعي». وثمة مشكلة إضافية تتمثل بمنافسة العامل السوري الذي يجول على قرى البقاع وحتى في مدينة بعلبك، منافساً المنجدين، على قلّتهم، بالمهنة و«بحرق الأسعار». فهذا، في جولته يبيع لحافه بعشرة آلاف ليرة، وهذا «يرضي الناس، حيث لا يضطرون لدفع 25 ألف على اللحاف نفسه الذي ننجده نحن».

رفضت العروس أن يكون في جهازها أي فراش صوف
العامل السوري والميل إلى الأرخض المتمثل بالأغطية الصناعية لم يؤثرا فقط على تنجيد الفرش واللحف، إذ إن التطور قضى أيضاً على ما يسمى «جهاز العروس»، الذي يتألف من فراشين وأربعة لحف ومخدات من الصوف، والذي كان ينتقل من منزل الأهل إلى العروسين. فالعروس اليوم باتت تفضل شراء لوازم منزلها من المحال الجاهزة، فضلاً عن إمكانية التقسيط، وحتى شرائها دفعة واحدة لأنها «لأنها أرخص، ففيما يبلغ ثمن لحاف الصوف الصناعي 25 ألف ليرة، يُباع فراش الصوف اليدوي بـ65 ألف ليرة لبنانية»، يقول عبده. ويضيف «يعني بدل ما يشتروا لحاف يدوي واحد بيشتروا 3».
نلا السحمراني التي زوّجت ابنتها مؤخراً، رأت أن «الجيل الجديد لا يدرك مدى صحة استعمال فرش الصوف واللحف، لجهة الحساسية والدفء والراحة، ويهربون من مسألة ندفه وتنجيده كل أربع سنوات». رفضت الابنة أن يكون بين جهازها العرائسي أي فراش أو لحاف أو حتى مخدة من الصوف، بذريعة أن السوق مليء بالفرش الجاهزة والنقوش المختلفة التي لا تحتاج كل فترة إلى التنجيد. في مقابل تلك الشابة الرافضة بالمطلق لفرشات الصوف، هناك من لا يجد بديلاً عنها في منزله. وهنا، تقول فاطمة حمية إنها ما زالت تحتفظ في منزلها بفرشات ولحف من الصوف، «لأنها صحية وما في غنى عنها، فهي أكثر دفئاً في الشتاء من غيرها». وتوضح أنها تلجأ كل خمس سنوات إلى ندفها وتنجيدها وتغيير أقمشتها عند المنجدين السوريين الجوالين الذين يمرون بالبلدة بدلاً من الذهاب إلى بعلبك». تشرح فاطمة احتياجات هذه المهنة، فهي «ترتكز على أدوات قديمة أهمها الإبر والخيطان والكشتبان (الخاتم الذي يستعمله المنجّد للتحكم بالإبرة)، بالإضافة إلى القضيب الفولاذي الذي يضرب فيه الصوف حتى يصبح نتفاً «منفوشة». أما الصوف، فهو ما يجزّ من الغنم، والذي يتمتع بخصائص تميزه عن الفرش الحديثة، لناحية أنه عازل للحرارة.
لكن، ليسوا كلهم «فاطمة». فالمهنة إلى اندثار، مثل غيرها من الحرف التي تميزت بها المنطقة منذ عقود. ولم يعد في وسع ممتهنيها إلا التنحّي، خصوصاً أن معظم هؤلاء باتوا كباراً في السن «والعمر لم يعد يساعد للبحث عن مهنة أخرى، وما بدي علّم أولادي مهنة ما بتطعمي خبز!»، يختم عبده الشيخ علي.