سفيان الشورابي
في مكتب ضيّق في الطبقة العلويّة من مسرح «التياترو»، الفضاء الثقافي الشهير وسط العاصمة تونس، تلمح لوحات زيتية متناثرة، وكتباً ملقاة هنا وهناك. وسط المكتبة المبعثرة، وبجوار جهاز الكمبيوتر القديم، يقبع المسرحي الستيني. من هذه البؤرة، رفد توفيق الجبالي المسرح التونسي بأعمال خلّدتها الذاكرة الجماعية. قد يكون الجبالي «ديناصوراً» في طريقه إلى الانقراض أسوة بأمثاله، ممن صنعوا ربيع المسرح في تونس. المسرحي المتعدّد المواهب، اقتنَع بأن العملية الإبداعية لا يمكن أن تكون إلّا مستقلة. أصاب جراء هذا الخيار كثيراً، وأخطأ قليلاً. الممثل والمخرج وكاتب السيناريو والمنتج، لا يرى نفسه مديناً لأحد في ما حقّقه، باستثناء المصادفة...
في طفولته، كان يجعل أقرانه يصطفّون على السلم، ويعمد الى تقمص بعض الشخصيات الخرافية أمامهم. في سنوات المراهقة، لم يمتلك طموحات محدّدة. كان يعيش أيامه على نحو بوهيمي، وحين حاز شهادته الثانوية، أجبره والده على الالتحاق بمدرسة «ترشيح المعلمين» في تونس العاصمة. كان التعليم تلك المهنة السامية القادرة على رفع رأس العائلة عالياً وسط قومها. لكنّ الابن تمرّد وترك مقاعد الدراسة، ما وتّر العلاقة مع عائلته المحافظة.
مع محمد إدريس، والفاضل الجعايبي، والفاضل الجزيري، بعث فرقة «المسرح الجديد» كمفترق حاسم في تاريخ المسرح العربي
راح توفيق الشاب يبحث عن حضن آخر يؤوي عبثه، فكانت شوارع تونس وأزقتها منفاه الاختياري. ألقت به المصادفة بين يدي جمعية «المصائف والجولان»، وكانت الرحم الحاضن لجيل «الهيبي» الأول. وجد الجبالي نفسه برفقة أشخاص من طينة لم يعهدها. جالس «أناساً عصريين»، يتحدثون في السياسة والفنون، تدخّن الفتيات منهنّ، ويصادقن الرجال من دون ارتباك.
وللمصادفة مرة أخرى دورها، حين زار محمد مزالي مقر «المصائف والجولان»، (وكان آنذاك مدير الإذاعة الحكومية التونسية، قبل أن يصبح وزيراً ثم رئيس حكومة في عهد بورقيبة، رحل في ٢٣ يوليو الماضي). اقترح مزالي على توفيق الالتحاق بالإذاعة. «كان دوري في البداية يقتصر على الهمهمة، وتكرار عبارات «آه» و«يا جميل» و«رائع»، مقابل راتب لا يتجاوز 15 دولاراً».
في عام 1965، أعدّ الجبالي مسرحية حصلت على الجائزة الأولى في «مهرجان المسرح المدرسي»، ومكّنته من حضور «مهرجان أفينيون» المسرحي الشهير، جنوب فرنسا. هكذا قرر الإقامة في فرنسا التي «كان الذهاب إليها أسهل من زيارة مدينة جنوب تونس». قضى الأعوام الأولى بين مواكبة بعض الصفوف الجامعية والعمل في مهن متواضعة، إلى أن نجح في امتحان الدخول إلى القسم العربي لإذاعة باريس. «لقد هلّلت فرحاً بهذا الخبر، بينما كان المهاجرون العرب في فرنسا يعبّرون هستيرياً عن حزنهم بعد هزيمة حزيران 1967». في تلك الفترة، لم يكن معنياً بالسياسة: «لقد ازدريت المهاجرين العرب حينذاك. كل ما قاموا به كان العويل على أرضهم المفقودة، ولم ينتبهوا إلى أن خسارة المعركة مع إسرائيل كانت نتيجة طبيعية لهزيمتهم الحضارية» على حد تعبيره.
النهضة الفكرية التي أحدثتها حركة أيار (مايو) 1968، كانت حافزاً جديداً بالنسبة إليه. «لقد عايشت احتلال الطلاب لمسرح «الأوديون»، وكنت أرافق المسرحي والروائي الراحل سمير العيادي إلى الساحات العامة لنراقب الأحداث». في تلك الأيام، التقى الجبالي بالمصادفة أيضاً، المسرحي الفاضل الجعايبي وهو يتفرّج على التظاهرات مثله في شارع سان ميشال. وعام 1972، أسس الجبالي «التجمع الفني من أجل نشر الثقافة العربية في فرنسا» CADCAF، مع نشطاء يساريين من أمثال الهاشمي بن فرج وراضية الحلواني، والمسرحي محمد إدريس الذي سيمثّل توفيق في إدارته لاحقاً، أواسط الثمانينيات، دوراً لا ينسى في «إسماعيل باشا».
«مذكرات ديناصور» عمله المسرحي الأوّل على خشبة «التياترو»
سهرت المجموعة على تنظيم عروض موسيقية ومسرحية للتعريف بالثقافة العربية بين عواصم أوروبية عدة، قبل أن تدعوها وزارة الثقافة التونسية للعودة إلى الوطن. هكذا ساهمت في بعث «المركز الوطني للفن المسرحي» عام 1973، إلا أن الجبالي سرعان ما تركها. «وجدت نفسي في مؤسسة تربوية مع أشخاص لهم تطلعات أخرى جانبية». قرر الجبالي الهجرة إلى مصر، حيث قضى عامين يكتشف أغوار المسرح المصري. سجّل حينها حفلات الشيخ إمام في الجامعات المصرية. «أغلب التسجيلات الرائجة حتى اليوم هي تسجيلاتي الخاصة التي ما زلت أحتفظ بنسخها الأصلية».
في أواخر الثمانينيات، عاد الجبالي إلى تونس وساهم في تأسيس «مسرح فو»، وأنجز مسرحيته المحترفة الأولى «تمثيل كلام» بصحبة زميلته رجاء بن عمار. ثم التقى الجبالي الأصدقاء القدامى (محمد إدريس، الفاضل الجعايبي، الفاضل الجزيري، جليلة بكّار، الحبيب المسروقي...)، ليبعثوا فرقة «المسرح الجديد» التي شكّلت مفترق طرق حاسماً في تاريخ المسرح التونسي والعربي.
وفي منتصف الثمانينيات، خاض هذا الفنّان غير المنضوي نضالاً من نوع آخر. في تلك الحقبة، سجن الممثل الأمين النهدي بسبب انتقاده الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة في إحدى مسرحياته. رفض «اتحاد الممثلين المحترفين» تبني قضيته. فاتفق أعضاء الاتحاد على الدعوة إلى جلسة عامة جرى خلالها انتخاب مكتب جديد عُيّن فيه توفيق الجبالي كاتباً عاماً والفاضل الجزيري رئيساً، وتقرر تحويل اسم الاتحاد إلى «اتحاد المسرحيين التونسيين»، بغية إعداد أرضية متكاملة لمهنة المسرح في تونس. غير أن الخلافات مع وزير الثقافة حينها البشير بن سلامة، قضت على كلّ الأحلام.
حالة الإحباط التي شعر بها الجبالي، دفعته إلى الإعلان عن القطيعة النهائية مع أجهزة الدولة. كان الاتجاه لتأسيس فضاء مسرحي مستقل يعتمد على إمكانات ذاتية بسيطة، لكنّه يقدم رؤية مغايرة للسائد وينأى بنفسه عن الضغوط السياسية. هكذا ولد «التياترو» سنة 1987. «لقد آمنت بـ«التياترو» من أجل أن يكون ملتقى للأصدقاء الذين لم يجدوا سقفاً يؤويهم». كانت أولى باكورات أعمال الفرقة «مذكرات ديناصور» (1987)، ثمّ «كلام الليل» (1990)، و«عطيل» (1997 ــ 1998)، و«ضد مجهول» (1999)، و«أربع ساعات في شاتيلا» (2003) عن نص جان جينيه. «بقي «التياترو» وفيّاً لأهدافه الأساسية، كفضاء لترويج كل أشكال التعبير الفنية المعاصرة، ومحفزاً للتفكير المتواصل عن دور الفن والفنان في المدينة».
اليوم، وسط حالة الحصار أو الانحسار التي يشهدها المسرح التونسي، لا تزال قلّة تقاوم وتبحر عكس التيار. والجبالي في طليعة هؤلاء. حوّل «التياترو» إلى جيب مقاومة، دفاعاً عن الخيال والذوق، عن حق النقد والضحك من السلطة، أيّ سلطة...


5 تواريخ

1944
الولادة في قرية قصر هلال
(الوسط الشرقي لتونس)

1967
أقام في فرنسا، وعمل في القسم العربي لإذاعة باريس. بعد ست سنوات، عاد إلى تونس وشارك في تأسيس «المركز الوطني للفن المسرحي». ولم يلبث أن انتقل إلى مصر لعامين.

1987
أسّس فضاء «التياترو» الذي يديره حتّى اليوم مع رفيقة دربه زينب فرحات

1992
«فمتلا» مسرحيّته التي أثارت ردود فعل صاخبة

2010
جديده «ارقص مع القرد» على برنامج الموسم الحالي في «التياترو»