روبير عبد اللهبعد طول «تطنيش»، دهمني استحقاق بدء العام الدراسي، فباتت زيارة المكتبة قدراً لا مفر منه. وكمن يعوّل على سراب، حملت كتب أولادي (للسنة الماضية) ورحت أمنّي النفس، واهماً، ببيعها، ما قد يخفف عبء كلفة الكتب الجديدة الفاحشة، برغم علمي أن «بائع الكتب» سينجح بشرائها مرة جديدة بأبخس الأثمان. لكنني قلت «الكحل أحلى من العمى».
وصلت إلى شارع المكتبات في طرابلس. طوابير أهالي الطلاب على أبوابها. هموم الدنيا في عيونهم تكاد تنطق «اللهم لا مردّ لقضائك لكن نسألك اللطف فينا». اندسست بين الجموع لحجز مكان لكتب أولادي القديمة على طاولة صاحب المكتبة، الذي ما إن ردّد عبارة أهلاً وسهلاً حتى بدأ بفرزها «هذا صالح وهذا للكب». الكتاب القديم بربع سعره، وبدون أن يكلف نفسه عناء المناقشة، قرر أن سعر كومة كتب الصف السابع تساوي 30 ألف ليرة! الوقت لا يسمح بالمساومة؛ فالولد غداً سيكون على المقعد في صفه، ولا يمكنني تحمل إمكان وقوعه فريسة نظرات رفاقه والأساتذة. فمن شرب بحر الأقساط والقرطاسية لن يغص بساقية أسعار الكتب. أما بالنسبة إلى كتب الثاني ثانوي، فكانت النتيجة ذاتها بعد فرز الكتب الصالحة من الكتب الملغاة.
ثم يأتي دور شراء كتب الثامن أساسي والثالث ثانوي. بالتأكيد الشراء ليس مثل البيع حتى بالنسبة إلى الكتب المستعملة. فساعتها يرجع صاحب المكتبة إلى لوائح الأسعار الرسمية ويحتسبها بدقة متناهية، كأنه يقول في نفسه: «شهران وينتهي الموسم، ينبغي تعويض فارق بطالة الأشهر العشرة الباقية».
شيء لا يصدق! كتاب اللغة الإنكليزية مع دفتر التطبيق للصف الثامن بـ50 ألف ليرة، وفي المقابل لم يبق صالحاً للبيع من كتب صفي السابع والثاني ثانوي إلا ما يقدره صاحب المكتبة بـ60 ألف ليرة. وبالمحصلة بين البيع والشراء خرجت من المكتبة بعدما دفعت نحو 400 ألف ليرة.
ما دفع قد دفع. لكن فضولي، وهو فضول من ابتلي بمعرفة شيء من طرائق الكتابة والتأليف، ورطني بتضييع ساعات في المقارنة بين الكتب القديمة وتلك المسماة طبعات جديدة.
فماذا ابتكرت دار النشر في مجال الجغرافيا لتصدر طبعة جديدة للصف الثامن مثلاً؟ للوهلة الأولى، الطبعة الجديدة هي نسخة طبق الأصل عن الطبعة القديمة. لكن بعد شيء من التدقيق بالإمكان «اكتشاف» مجموعة تغييرات سطحية وسخيفة، يبدو أن قانون المطبوعات يطلب توافرها لتشريع نشر كتاب مدرسي باعتباره طبعة جديدة. ففي الصفحة 14 من الدرس الأول، استُبدلت عبارة «من خلال المستند» بعبارة «لاحظ المستند» من دون أي تغيير على الإطلاق في ما بقي من سياق الجملة والنص. وفي الصفحة 28 تستبدل عبارة «من خلال الرسوم البيانية صنّف المدن» بعبارة «لاحظ الرسوم البيانية وصنّف المدن»، وفي الصفحة 29 عبارة «ما أنواع الحيوان؟» تصبح «حدّد أنواع الحيوان». وفي الصفحة 46 «ما البيئة؟» تصبح «حدد البيئة» ومن ثم «سمِّ» تصبح «اذكر اسم» في الصفحة 54. ولم ينسَ مخرج الطبعة الجديدة أن يسحب صور الطبعة الملغاة ليكبّر بعضها في النسخة الجديدة ويصغر البعض الآخر.
الطامة الكبرى في تغيير كتاب الفلسفة في الصف الثالث ثانوي، علماً بأن الدروس لم يتغير فيها أي شيء على الإطلاق. تغيير في الألوان فقط، بالإضافة إلى سؤال أو اثنين في نهاية كل محور مسحوبين من الامتحانات الرسمية في العامين الماضيين. وبما أن الكتاب صادر بالفرنسية، فقد أسقطت دار النشر من حساباتها احتمال وجود «كثيري الغلبة»، ورأت أن تغيير لون الغلاف وخلفيات النصوص كافٍ لإصدار طبعة جديدة! وبالفعل، عاجلني صاحب المكتبة بالقول إن «تغييراً جوهرياً حدث في كتاب الفلسفة». وعلى فكرة، الطامة الأكبر أن المدرسة التي تعتمد هذا الكتاب تصر على تعليم الفلسفة بالفرنسية، كما هي الحال في مادتي الاقتصاد والاجتماع. وتتجاهل المدرسة أن طلاب الثالث ثانوي بمعظمهم تخرّجوا من المدرسة نفسها في الشهادة المتوسطة، وحينها كان عدد الناجحين في اللغة الفرنسية 20 طالباً فقط من أصل 90 تقدموا للامتحانات الرسمية. ومع ذلك فإن «برستيج» المدرسة لا يسمح بتعليم تلك المواد باللغة العربية، بغض النظر عما إذا كان باستطاعة الطلاب أن يفهموا شيئاً مما يقرأونه بالفرنسية.
في السنوات الأولى لإطلاق مناهج التعليم الجديدة كانت دور النشر الخاصة تتأخر في إصدار الكتب المدرسية مع بداية كل عام دراسي. سألت صاحب دار نشر عن السبب فأجابني ساخراً: «من عقلك نحن نؤلف الكتب؟ نحن يا حبيبي نجهز الغلاف وننتظر صدور النسخة الأولى من الكتاب المدرسي الوطني لنشغل ماكينة الدار».