كل شيء يوحي بالفرح في القاعة الجانبية لكنيسة السريان في السبتية. «التيكا» على الجباه السمراء، و«الجمارا» على خصل الشعر. والأجساد المتمايلة فرحاً في الغربة البعيدة. إنه مهرجان «داشين»، الذي احتفلت به أمس الجالية النيبالية في لبنان. الرقص لغة مشتركة في قاعة جمعت إلى النيباليّين لبنانيين ليسوا أبرياء من العنصرية، وآخرين يكافحون العنصرية
بسام القنطار
اختصر النيباليون عيد «داشين» المقدّس لديهم، الذي يمتد 15 يوماً في بلادهم البعيدة الواقعة بين جبال الهملايا، إلى أقل من 15 ساعة في غربتهم اللبنانية القسرية. في كنيسة مار يعقوب السروج السريانية في السبتية، رقصوا أمس وشربوا وغنّوا، معظمهم فتيات لا تتجاوز أعمارهن 25 عاماً، بعضهن حضرن وحدهن، وبعضهن تَشاركن فرحة «العيد» وربات المنازل، اللواتي يعملن فيها، فيما رعت شركات تحويل الأموال الحفل.
في القاعة التي غلبت عليها الفوضى والضجيج، لم يتوقف النيباليون عن الكلام. إنه الشوق إلى التواصل بلغة بلادهم، بعدما أمضوا أشهراً وسنوات يتبادلون فيها لغة الإشارة مع مستخدميهم. في وسط القاعة جلست سيدة لبنانية خمسينية إلى جانب أربع نيباليات، احتارت السيدة من تبعد من أمامها لكي ترى الوصلات الفنية على المسرح، تبدّل محياها بعد دقائق من جلوسها في المكان، لكنها لم تخفِ امتعاضها من رقصة أدّتها صبية نيبالية بتنورة قصيرة على المسرح. «شفت ليه ما بخليهن يظهروا لحالن»، تقول السيدة الآتية من الأشرفية برفقة أربع عاملات: واحدة تعمل لديها، والأخريات يعملن لدى أقاربها. «والله لو بموت ما بخليهن». تضيف السيدة.
نيباليات يفرحن في لبنان. إنها مناسبة للأمل بغد أفضل، لجالية خسرت في غضون عام 15 صبية بعمر الورود، سُجّل موتّهن في خانة «الانتحار نتيجة للضغوط النفسية التي تعرّضن لها من جانب الذين يعملن لديهم»، وفق ما ذكرت صحيفة «كانتيبور» النيبالية في آب 2010، نقلاً عن تقرير نيبالي، تقرّر إثره حظر سفر العاملات النيباليات إلى بيروت.
ويعمل أكثر من 18 ألف نيبالي في لبنان، 95% منهم من النساء، ووفقاً لوكالات التوظيف في العاصمة كاتماندو، فإن نحو 800 نيبالي يغادرون البلاد يومياً بحثاً عن عمل في الخارج.
حظرت النيبال سفر العاملات إلى لبنان عقب زيادة الشكاوى
ويعدّ مهرجان «داشين» بمثابة العيد الوطني في النيبال، وهو يسبق موسم حصاد الأرزّ في البلاد التي تجاورها التيبت من الشمال، وتحدّها الهند من الشرق والجنوب والغرب، ويمثل العيد رمزاً للروابط العائلية القوية. ولقد بات هذا العيد المتنفّس الطبيعي للجاليات النيبالية المنتشرة حول العالم، ويختلف توقيته كل عام، لكنه يقع عادةً في الفترة الممتدة بين أيلول وتشرين الأول من كل عام. مع الإشارة الى أنه العام 2067 حسب التقويم النيبالي.
ليست المرة الأولى التي يجتمع فيها أبناء الجالية النيبالية في لبنان للاحتفال بهذا العيد، لكنهم هذه المرة لم يحتفلوا وحدهم، بل انضم إليهم العشرات من أعضاء حركة مناهضة العنصرية، التي تنسّق عملها رابطة الناشطين المتسقلين «إندي آكت»، وناشطات من جمعية «كفى عنف واستغلال». وحضر الحفل وفد من الكتيبة النيبالية في قوات اليونيفيل، التي يبلغ تعدادها 850 جندياً، موزّعين ضمن فرق تنتشر في القطاع الشرقي.
السكرتيرة في القنصلية النيبالية الفخرية في لبنان مارييل رزق، تحدثت إلى الحضور بالإنكليزية، واعتذرت عن القنصل جوى عيسى الخوري «الذي لم يتمكن من الحضور بداعي السفر». لم يعرف الكثير من الحضور أنها ممثلة بلادهم في بلاد الأرز، لولا صعود ممثل «جمعية النيباليين المقيمين في لبنان»، وتقليدها وسام المهرجان.
كثير من أعضاء الجمعية النيبالية وضعوا هذا الوسام، معظمهم ذكور يرتدون البزّات الأنيقة، ولا يتردّدون في إظهار أبوية واضحة تجاه الفتيات اللواتي طغى حضورهن على أجواء المهرجان.
الناشط في الجمعية، بيشنو نوباني، قال لـ«الأخبار»: «اخترنا قاعة الكنيسة هذا العام بعدما كنا نحتفل بهذا العيد في مطعم في الدكوانة. المكان هنا فسيح، والإيجار رخيص، وتعاونت الكنيسة معنا تعاوناً ممتازاً». يضيف: «المهرجان مكان للفرح، إنه عيد الميلاد بالنسبة إلى النيباليّين، ونحن نغتنم هذا اللقاء الحميم الذي يجمع أبناء الجالية للتعرف على أوضاعهم، وحالياً نقوم بإحصاء شامل لمعرفة من يعمل بدون أوراق ثبوتية، والذين من الممكن أن يتعرضوا للتوقيف والسجن. كما أن الأموال التي نجمعها ستخصص لترحيل النيباليّين الموجودين في سجن الأمن العام، الذين لا يملكون ثمن تذكرة السفر إلى البلاد، التي توازي 500 دولار أميركي».
النيبالية مادو دمسينا انشغلت خلال الحفل بتوزيع «الجمارا»، وهي عشبة خضراء اللون يجري إنباتها قبل 10 أيام من العيد لتُقطف وتوضع كزينة على الروؤس، في دلالة إلى موسم الحصاد. أما «مادو ديمسينا»، فشُغل في الإعداد لخلطة «التيكا» الحمراء، وهو مزيج من الصباغ والأرزّ واللبن. والعجائز يضعن هذا الصباغ على جباه الفتيات لجلب الحظ بالزواج والخصوبة في العام المقبل.
في عجقة الرقص على أنغام الموسيقى النيبالية، وزّعت الناشطة في منظمة «كفى»، مايا عمار، نشرة صادرة عن الجمعية باللغة النيبالية بعنوان «لا لاستغلال عاملات المنازل الأجنبيات». وتتضمن النشرة التي صدرت أيضاً بلغة الأماريك الإثيوبية ولغة التاغلوغ الفيليبينيّة وبالإنكليزية، رسالة من مركز الاستماع والإرشاد في المنظمة، تحوي تعريفاً بأنواع الإساءة التي يمكن أن تتعرض لها العاملات في المنازل مع خط أمان (٠٣٠١٨٠١٩) للاتصال بالمركز، للمساعدة والدعم، إضافةً إلى نسخة عن عقد العمل وما يتضمنه من حقوق وواجبات. علي فخري، من «إندي آكت»، أكد لـ«الأخبار» «أنّ مهرجان «داشين» أول الغيث، فحركة مناهضة العنصرية ستسعى مع بقية الجاليات إلى تنظيم احتفالات على مدار العام، والأهم أن يشترك الشباب اللبنانيون فيها لتأكيد أن في لبنان من يرفض الممارسات العنصرية تجاه الأجانب».