في عام 1995 وقع إشكال في المحمرة أودى بحياة شابين، فأُحرقت بيوت وهُجّر ساكنوها. بعد مرور عقد ونصف عقد، تتفاقم مفاعيل الإشكال لتطاول حياة أطفال ولدوا وعاشوا مشرّدين. وعلى الرغم من مساعي المصالحة، يبدو أن شدة الحرمان وقساوة العيش تمثّلان بيئة حاضنة لاستحكام العداء بين أبناء البلدة الواحدة
عكار ــ روبير عبد الله
عددهم يفوق العشرين ولداً. أعمارهم متقاربة جداً. في مكان ليس ميتماً ولا مدرسة. وليس في ساحة الضيعة ولا حتى في أحد زواريبها. بل هو واحد من المنازل التي تنتشر متباعدة على ضفاف نهر رشعين في قضاء زغرتا، حيث يسكن عمال سوريون في «تخشيبات» للعمل في الزراعة وفي تربية الحيوانات. ولكن تلك التخشيبة، بخلاف غيرها، تخبئ حكاية مريرة عمرها من عمر أكبر أولئك الأولاد، الذين ولدوا بعيداً عن بلدتهم المحمرة، أولى البلدات العكارية على الساحل قبالة مخيم نهر البارد. ولدوا هناك بعد تهجير أهلهم إثر حادثة دموية أودت بحياة شابين كانوا في مقتبل العمر.
صاحب الدار رجل دنا من الثمانين، ويعدّ نفسه قيّماً على عائلة عدد أفرادها خسمة وثلاثون. هو أحمد سعيد سنجر، في التعريف عن نفسه يقفز سريعاً إلى بداية التسعينيات يوم كان يعمل في شركة للأدوية والمبيدات الزراعية. وكمن يريد أن يقدم صك براءة يدفع عنه تهمة المشاركة في مقتل الشابين المذكورين، يورد الكثير من الكلام عن علاقته بسجيع عطية رئيس اتحاد بلديات الجومة حالياً، يوم كان يعمل مهندساً زراعياً ويتعامل مع الشركة نفسها. سنجر لا يريد إلّا استعجال بت القضاء لأمره، فيذكر أنه قال للقاضي في إحدى الجلسات «احبسوني أو افعلوا بي ما شئتم، لكن ما ذنب الأطفال حتى يستمروا في مثل هذه العيشة».
الحادثة وقعت منذ عقد ونصف عقد من الزمن، والقضاء وضع يده عليها. فلماذا لم تزل مجموعة من عائلات المحمرة مهجرة؟ أمر يدفع نحو التساؤل عن طبيعة تلك البلدة وظروف أبنائها المعيشية، وإن كان سياق سرد الحادثة وفشل محاولات الصلح وآليات معالجتها أو، على الأقل، الحد من آثارها، تشي جميعها بواقع متأزم وصعب يعيشه أهالي البلدة، لا يجد متنفساً له إلا في تنامي الأحقاد رغم مرور الزمن.
تقع المحمرة قبالة مخيم نهر البارد. خمسمئة متر من الجهة الشرقية، وتنتهي الطريق التي تمثّل امتداداً لأوتوستراد المنية عكار. فجأةً يتغير مشهد الطريق العام لتصبح أمام أشباه طرقات. أزقة ضيقة تحوّل فيها الزفت أثراً بعد عين، كأنك داخل المخيم. بيوت صغيرة ومتواضعة. لا شرفات ولا مساحات أمامها أو خلفها. يجتمع الناس أمام المنازل والدكاكين. صراخ الأولاد وعجقتهم هما نفسهما كعجقة المخيم وصراخ أولاده.
زياد أحمد موسى أمام دكانه تنفتح قريحته على مقتطفات لأحد الشعراء «حفر حفر حفر والناس قد كفروا وكم رِجل فيها قد كسروا»، ثم لا يلبث أن يعلو صوته منادياً مجموعة شبان كانوا آتين لتوّهم من اللعب في كرة القدم، فيسأل أحدهم «أين كنتم تلعبون؟» والجواب في بيادر القمح. بيادر القمح هي ملاعب الأطفال، يستأنف محمد أحمد عثمان ويضيف إننا ما زلنا نجتمع حول السبيل لجلب مياه الشفة التي انقطعت عن بلدتنا منذ عام 1976.
أما الحاج أحمد حسن حميدان، فيستشيط غضباً «نواب عكار السبعة غير نافعين، هم كمن سبقهم، يأتي كل واحد منهم ويدق على صدره، ويكثر من الوعود، لكنهم جميعاً كذّابون». ثم يتساءل بغضب أيضاً «أيعقل أن تحوّل أولى زخات المطر الطرقات في أحيائنا إلى برك للوحول؟ فيضطر كل واحد منا إلى «انتعال جزمته» طول فصل الشتاء».
أما عن العمل في البلدة، فحدّث ولا حرج بحسب محمد محمود مصطفى، الذي يعمل أجيراً مع خمسين من شباب البلدة في مصنع «مولّدات صقر» في بيروت قائلاً «البلدة تخلو كل أيام الأسبوع من الشباب، فجميعهم يذهبون إلى بيروت، ولو أقفل ذلك المصنع لأصبحنا جمعياً عاطلين من العمل».
بالعودة إلى قصة العائلة المشرّدة يرى المختار أحمد سلمى أن أصل القضية «خلاف تافه» تطوّر إلى ضرب مدحت أحمد سنجر بسكين من جانب أحد الأشخاص من عائلة البحصا، فتوترت الأمور وحدث إطلاق نار أدى إلى مقتل شابين من آل البحصا، فأحرقت بيوت عائلة سنجر، وخصوصاً القريبة من بيوت آل البحصا. تدخّلت جهات في المنطقة مثل نائب المنية السابق صالح الخير، وتألّفت لجنة صلح برئاسة

أصل القضية «خلاف تافه» تطور إلى طعن بسكين فتوترت الأمور وحدث إطلاق نار أدى إلى مقتل شابين


الحاج أحمد دهيبي من دير عمار، وتدخلت المرجعيات الأمنية، كما بذلت فعّاليات المخيم من قادة الفصائل وكبار المشايخ جهدها. ولم تفلح كل تلك المساعي في إعادة الأمور إلى نصابها. لذلك كانت نصيحة المختار بعدم الاحتكاك بأبناء البحصا منعاً لتجديد التوتر، وخصوصاً أن قاضي الشرع في عكار أحمد بشير الرفاعي لقي ما لقي من الإهانات لأنه أصر في يوم من الأيام على التدخل. فالأمور لا تزال في غاية التعقيد وآل البحصا، لشدة مصابهم، يعدّون كل من يتواصل مع آل سنجر بمثابة عدو لهم.
بدوره رئيس البلدية عبد المنعم عثمان، بعد استعراضه قائمة الحرمان التي يعانيها أبناء المحمرة، ينصح بالابتعاد عن البحث في الخلاف بين عائلتي سنجر والبحصا، لكنه لا يعفي نفسه من المسؤولية في متابعة القضية، إلّا أنه يشير إلى أنه بالرغم من صعوبة المسألة بحد ذاتها، فإن ثمة من يحاول تسعيرها من خلف الكواليس، ملمّحاً إلى الانقسام السياسي في البلدة خلال موسم الانتخابات البلدية، ومشيراً إلى أن الفريق الآخر في البلدة يحاول استثمار أي جهد يقوم به في هذا السياق، في إطار تقليب عصبية آل البحصا ضده.
ولدى محاولة استطلاع موقف رئيس البلدية السابق نديم التلاوي تبين أن هذا الأخير نقل إلى المستشفى بعد إصابته بجرج في رأسه إثر خلاف نشب في عرس أحد أبناء البلدة. لذلك كان أحد أقربائه شديد التوتر أيضاً، ما حال دون التباحث معه إلّا ضمن إطار عموميات أهل البلدة ومشاكلهم.
هكذا، كما يُقرأ المكتوب من عنوانه، المحمّرة مدخل عكار الجنوبي، شاهد على ما يعتمل في صدور العكاريين من شحن وتوتر وتعصب أساسه الحرمان في مختلف نواحي الحياة. لذلك تكون محاولات العلاج السطحية مثل قشرة طلاء خارجية لإخفاء كمّ هائل من القروح والاهتراء في الداخل.


بيع أراضي القرية للغرباء

يبلغ عدد المقيمين في المحمرة حوالى خسمة آلاف نسمة، علماً أن عدد الموظفين فيها قليل جدّاً والرتب الرفيعة معدومة، بما في ذلك المنخرطون في صفوف القوى العسكرية والأمنية. لم تعرف البلدة الشمالية التعليم الرسمي إلّا اعتباراً من بداية السنة الماضية، وذلك بعدما أسهمت تركيا في توفير بناء مدرسي استُخدم لإنشاء أول مدرسة رسمية في البلدة المذكورة. يعيش معظم أبناء المحمّرة ممّا تدرّه عليهم الزراعة. أما في ما يتعلّق بملكيات الأراضي الكبيرة، فتعود بمعظمها إلى أشخاص من آل المرعبي، الموجودين خارج البلدة. لذلك غالباً ما يكون أساس العمل الزراعي قائماً على استئجار الأراضي. وفي هذا السياق، تحدّث رئيس بلدية المحمّرة عبد المنعم عثمان لـ«الأخبار» مبدياً أسفه لعدم تمكّن أهالي البلدة ومزارعيها الكادحين من شراء تلك الأراضي، التي من الأفضل أن تكون ملكهم، لافتاً إلى عمليات البيع والشراء التي يتولّاها أشخاص يسمحون بتملّك غرباء عن المنطقة أراضي الضيعة، مشيراً إلى آخر هذه العمليات، حين بيعت مساحة خمسين ألف متر.