خليل صويلححين قابلناه في مرسمه، على سطح عمارة دمشقية، تطل على نهر بردى (قبل أن يجفّ تماماً)، كان نذير نبعة منهمكاً في قراءة مجلد بالإنكليزية بعنوان «الفن الآن». اعتقدنا أنه سيتخذ موقفاً مضاداً من صرخة الفنون المعاصرة، باعتباره مصوّراً، لكنّه فاجأنا بانفتاحه على كل التجارب الجديدة، متكئاً على مقولة النفري «العلم المستقر كالجهل المستقر». في الواقع، فإن هذا التشكيلي السوري البارز، لم يتوقف في محطة ثابتة. لطالما خضعت تجربته لتحولات كبرى، منذ أن درس الفنون الجميلة في قاهرة الستينيات إلى اليوم. لكنّ علاقة نذير نبعة بالرسم بدأت باكراً. الطفل الدمشقي الذي ولد في أحد بساتين قرية المزّة، المتاخمة لمدينة دمشق آنذاك، وجد نفسه في مهرجان ألوان. كذلك عزّزت جدته أم محمود ذاكرته بحكايات أسطورية وشعبية، سوف تتسلل إلى لوحته لاحقاً، في سرد بصري وحكائي. هناك قصة أقدم، يرويها فناننا بشغف: «كنت أرافق والدتي إلى سوق الحرير في دمشق، فاكتشفت عالماً لونياً باهراً في الأقمشة الشعبية التي كانت تبتاعها أمي من هذا السوق، ثم صرت رسّاماً لأقمشة النساء، ومناديل الغرام». نسأله عن معنى مناديل الغرام، فيجيب ضاحكاً: «هذه المناديل كانت شائعة في أربعينيات القرن المنصرم، إذ كنا نكتب عليها أبياتاً شعرية في الغزل، وكانت تُهدى إلى المحبين».
في مدرسة التجهيز، شاهد على يد معلّم الرسم ثابت قباني، أول لوحة في حياته، وكانت لوحة مستنسخة من أعمال رينوار، لكنّ تعرّفه إلى محمود جلال قاده إلى فضاء أرحب. «في مرسمه، اكتشفتُ معنى الظل والنور في اللوحة، والألوان الزيتية. أما ناظم الجعفري، فكان معلّمي الحقيقي، إذ كانت لحظة دخولي مرسمه، في شارع بغداد، تشبه الانخطاف». ستتاح لطالب البكالوريا المشاركة في المعرض السنوي الذي تقيمه «الجمعية السورية للفنون»، وسيفاجأ بوجود لوحته معلّقة إلى جانب لوحة أستاذه صلاح الناشف. «كان زمناً يشبه الربيع»، يقول.
في فترة الوحدة السورية المصرية، سيذهب في بعثة لدراسة الفنون الجميلة، وسيعيش أزهى أيام حياته. «كانت القاهرة تعيش عصرها الذهبي، ونهضتها الثقافية الشاملة، بوجود فنانين وأدباء كبار مثل عبد الهادي الجزّار، وحامد ندى، وحسين بيكار، ونجيب محفوظ... وعروض دار الأوبرا، وأعمال محمود سعيد». وكان اختلاطه بشعراء العامية: عبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، وأحمد فؤاد نجم، قد ترك بصمة واضحة في تفكيره. هكذا اهتدى إلى لوحة تضع الهوية المحليّة في صلب اهتمامه، ولم يكن مستغرباً أن يختار «مقالع الحجارة» عنواناً لمشروع تخرّجه من «كلية الفنون الجميلة».
إثر عودته من القاهرة بصحبة رفيقة دربه شلبية إبراهيم، صُدم بقرار تعيينه مدرساً لمادة الرسم في مدينة دير الزور. هذه الصدمة ستتحول لاحقاً إلى مفاجأة مدهشة. ففي هذه المدينة البدوية التي تقع على ضفاف الفرات، وبالقرب من مدينة ماري الثرية، وجد الهوية المحليّة التي يفتش عنها، واكتشف ألواناً مشرقة. هناك، رسم مجموعته الأولى بتأثير الأساطير المحلية والفن التدمري، والملاحم الفراتية، ثم جداريات ما بين النهرين، والنحت السومري، ورسوم الفخار والخزف. «كنت أستلهم الينابيع الأولى لجماليات فنون المنطقة بتأثير هاجس تأصيل فن عربي»، يقول.
في المفترق الحاسم، ستكتسح هزيمة حزيران 67 الآمال والتطلعات، لتحل مكانها «صاعقة هائلة هزّت القناعات الجديدة، وخيبة كاملة». لم ييأس نذير نبعة، فانخرط في موضوعات فلسطينية مستوحاة من قصائد شعراء الأرض المحتلة، إضافة إلى رسوم لقصص الأطفال التي كان يكتبها زكريا تامر في مجلة «أسامة»... ثم أتته فرصة الذهاب إلى باريس «للخروج من تلك الفترة الكابية للهزيمة».
باريس مطلع السبعينيات «ساعدتني على أن ألتقط أنفاسي وأستعيد توازني، كما أتاحت أمامي الاطلاع على تجارب التشكيليين الكبار». هكذا راح صاحب لوحة «عشتار» يرسم كل يوم، مشدّداً على التفاصيل، فأنجز مجموعة من اللوحات المشغولة بتفاصيل النباتات، كأنه يستعيد مخزونه الأول في بساتين دمشق.
بعد عودته، كأن المحترف السوري قد غرق في التجريد، بتأثير فنان إيطالي كان يعيش في دمشق، لكنّه أدار ظهره للموجة، واشتغل على التشخيص. كانت أعماله التي حملت اسم «الدمشقيات» إشارة دالّة على هوية خاصة للمكان الدمشقي، في مناخات حلمية وأسطورية شديدة الثراء والغواية، تستمد من الأساطير الشرقية موضوعاتها: نساء وحشيّات بكامل فتنتهن، وحليّهن، وزهورهن، يتنزهنّ في بساتين الشرق. وإذا بشهرزاد تتسلّل إلى سطح اللوحة لتعيد صوغ منامات جديدة، تتشابك خطوطها وألوانها بحسّ غرافيكي صارم، و«روح مدرَّبة على التقاط مكامن الجمال الموجع». مرةً أخرى، سيغادر منطقته التشكيلية في مغامرة صعبة، وذلك برسم تفاصيل التراب وآثار الزمن على الطبيعة في حسٍّ صوفي آخّاذ، تحت عنوان «التجليات». هكذا أطلقت إحدى غاليريهات دمشق هذا الاسم على المكان الذي استقبل معرضه الأخير كنوع من التحية لهذا التشكيلي.
على جدار المرسم لوحة ضخمة تحمل توقيع يوسف عبدلكي، تتوسطها قوقعة وتفصيل من لوحة لصاحب المرسم، أهداها إياه للتعبير عن شغف بتجربة يقول عنها: «لا أحد يعرف كيف يكون الفن مختبئاً تحت الأصابع، ما إن تحكّه حتى يفوح عطره القاتل». يجرّب نذير نبعة هذه الأيام أن يدرّب أصابعه، إثر انقطاعه عن مرسمه برسم اسكتشات بقلم الفحم لأيدٍ متشابكة تشبه أغصاناً لشجرة، قد تكون موضوعاً لمعرضٍ مقبل. كذلك يفكّر في طبع كتاب يضم رسومه القديمة بالحبر الصيني، تلك التي رافقت نصوصاً أدبية في حقبة السبعينيات، ومثّلت أحد ملامح المرحلة.
نخرج من مرسمه الضيّق بمخزون بصري ساحر، ونتركه لألوانه. نتركه لحيرته بين العقل والعاطفة، في تشييد فضاء تشخيصي يحمل بصمته وحده، بعيداً عن اضطرابات المحترف السوري، وأوهام الآخرين في تسليع أعمال تشكيلي ظل شعاره التحدي والعناد. «معركتي أن يكون لديّ ألوان، فهي جمهوريتي المستقلة، ولن أفرّط بها».


5 تواريخ

1938
الولادة في دمشق

1958
دراسة الفنون الجميلة في القاهرة

1965
المعرض الفردي الأول في صالة
الفن الحديث، دمشق

1971
دراسات عليا في
«مدرسة الفنون الجميلة»، باريس

2010
كتاب فنّي يضمّ رسومه
بالأبيض والأسود