ما العمل؟ تكرر السؤال «اللينيني» عشرات المرات في لقاء اليساريين العرب، أمس، الذي دعا إليه الحزب الشيوعي اللبناني. أما الإجابات، فأخذت الشكل الأيديولوجي حيناً، وحاولت ملامسة الواقع الاجتماعي في البلاد العربية حيناً آخر. وفيما وقع المشاركون في التباس المزج بين محوري الجلسة الأولى، في مداخلاتهم، فضل «الرفيق خالد» أن يراقب الجلسات من دون المشاركة أو الرغبة في الحديث للإعلام
أحمد محسن
ذهب كثيرون أمس، في اللقاء اليساري العربي الذي عقد في «جمعية الشابات المسيحيات»، إلى تفسير أزمات اليسار، أيديولوجياً، وبلا أمثلة تطبيقية في كثير من الأحيان. تنوعت المحاور، التي ارتآها المنظّم، الحزب الشيوعي اللبناني، بين تنظيم مواجهة الاحتلال وتفيعل العمل مع القواعد الشعبية. لكن، كان الفصل صعباً بين المحورين، بالنسبة إلى كثيرين من المداخلين. طغت اللغة الأيديولوجية على الأمثلة العملانية. الكاتب أنطوان حداد، مثلاً، رأى أن الأزمة تعود إلى انقسام اليسار إلى فريقين: بورجوازي متملق لحركات الاحتلال، ويسار حقيقي يواجه الامبريالية. وذهب آخرون إلى تشريح أحوال اليسار، ومنهم سهيل عبد الواحد، عضو الديوان السياسي في حزب التقدم والاشتراكية المغربي. هناك، في المغرب، الشيوعيون جزء من السلطة. أثار الأمر حفيظة بعض الحاضرين. أولويات «الرفاق» في المغرب مختلفة. يناضلون من أجل حقوق الأمازيغيين ويحاربون التمييز الجندري. وفي الأردن، حيث لا أمازيغيون، والجميع عرب، يظهر الخلاف بين الشيوعيين واليساريين في أوجه، كما أشار أسامة العزب، من الحزب الشيوعي الأردني. لا شيء حتى الآن عن الأسباب الحقيقة للتراجع اليساري الحاد.
المحاولة الأولى للخروج من النقاشات المألوفة، أو التي يعاد نقاشها للمرة الألف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأت مع السؤال الذي سأله عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي السوري، نبيه جلاحش: لماذا وصلت الحالة إلى ما هي عليه الآن؟ قاصداً انهيار المعسكر الاشتراكي، وتراجع حركات اليسار، في مقابل صعود أصولي، السلفية ليست إلا أوضح تجلياته. بالطبع، قد تبدو العبارات طنانةً بالنسبة إلى كثيرين ولا تعدّ خروجاً عن المألوف في المؤتمرات واللقاءات المشابهة. لكن النقاش الذي تلاها، فتح باباً ضيّقاً للدخول إلى مغزى المحور الثاني. التعريف عن ماهية المحور، بحد ذاته، مثّل مادةً للنقاش. المحاضر في الجامعة اللبنانية، فارس آشتي، انتقد اللغة المطروحة من أساسها. برأيه، هذه اللغة تشبه الخطاب القومي العربي في خمسينات القرن الفائت وستيناته. انزعج آشتي من الحديث عن «أزمة الإمبريالية»، ففي واقع الأمر، اليسار في أزمة أعمق، ومن دون معالجة تطبيقية، يصبح الحديث عن أزمات الغير أشبه بالعزاء عوضاً عن العمل الجدي للخروج من القمقم.
اليسار العربي في القمقم لأن العلاقة بينه وبين شعوب المنطقة العربية شبه مقطوعة. أجمع الحاضرون على هذا الوقع. بعضهم أعلنها مباشرة، وبعضهم لمح إلى ذلك. اللغة المستخدمة للتوجه إلى المجتمع ليست إلا سبباً شكلياً للأزمة. فإلى لغة الخمسينات التي انتقدها آشتي، تعرض عدد اليساريين بالانتقاد لبعض الأحزاب الشيوعية لالتحاقها بالأنظمة القمعية العربية. لم يقتنع المنتقدون بالحديث عن أولوية «مواجهة الأعداء المشتركين»، ذريعة تبرر مهادنة الأنظمة. حتى نائبة الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني، ماري الدبس، رأت أن الارتباط بين الخيارات السياسية والاقتصاد أمر عضوي، فلا يجوز الاختلاف في البرامج الاقتصادية بين المجتمعين، كما لا يجوز الاختلاف في السياسة. أما الحديث عن أسباب التراجع، فبعد كلمة الأمين العام للحزب الشيوعي خالد حدادة، والتي سجلت انشطارين فكريين داخل اليسار، أولهما تبرأ من «هزيمة الاشتراكية»، وثانيهما تقوقع بدل مواجهة التحديات المقبلة، ذكّر عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي، محمود خليل «الأخبار» بالضغط الذي تعرض له اليسار اللبناني، في تهميش عمل النقابات، ووضع شروط على مقاسات الطوائف في الإعلام والدولة.
بدوره، غرد عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مروان عبد العال خارج السياق الرتيب للنقاشات. ورأى في مداخلته أن انقطاع العلاقة بين طبقات المجتمع واليسار مفهومة. وفي حديث مع «الأخبار»، لفت عبد العال إلى أن تراجع دور اليسار في المقاومة – في منطقة بنى هذا اليسار حضوره فيها استناداً إلى دوره التقليدي في المقاومة – أدى إلى تراجع اليسار عامةً. وبغض النظر عن ارتدادات الانهيار السوفياتي، فإن غياب العمل المؤسساتي إلى حد الانعدام، وتحوّل كوادر اليسار إلى المنطمات غير الحكومية أسهما في تعميق الفجوة مع المجتمع. يرى اليساري الفلسطيني أن تلك المنظمات التي تتلطى بشعارت حداثوية في ظاهرها، ونيوليبرالية في عمقها، نجحت في احتلال ما بقي من المشهد المدني، الذي نجا من سطوة العمل الإسلاموي المنظم. وفي الإطار ذاته، يلمس عبد العال تراجعاً في الحالة الوطنية عامةً. في المعسكر اليساري العربي الأخطاء تتزايد ولا تجديد. اللافت أن مصطلح «المعسكر» ما زال الأفضل للتدليل على تجمع الاشتراكيين. حركة حماس أحكمت قبضتها على غزة تحت شعارت الاصلاح والتغيير. حزب الله هو صاحب المشروع السياسي الأوضح والأقوى في المنطقة العربية، متسلحاً بالكفاءات العلمية، وإخلاص القواعد، التي يتصل معها عبر شبكة واسعة من المؤسسات الواقعية. أي تلفاز قادر على التقاط 200 محطة فضائية إسلامية دفعة واحدة، ولا محطة واحدة، تستقبل صوتاً يسارياً. ثمة مسح دماغي يحصل، والحوار، أغلبه ركز على وحدة اليسار، فيما أغلب اليسار بلا صوت، وبحاجة إلى توليد منابر. التشرذم ليس السبب الوحيد في ظهور حجم اليساريين على هذا الشكل. عدد هؤلاء تقلص فعلاً. وقد يكون اليسار بحاجة إلى القيام بدراسة اختصاصية معمقة، تبتعد عن الخطاب وترتكز على أسس علمية... لفهم العالم من أجل تغييره.