كأنهم قطط شوارع. لا أحد يدافع عنهم، الشارع يضطهدهم، يجرهم من هنا، يتحرش بهم من هناك، لمجردالتسلية. هم ضحايا «زناخة» شباب قد تصل «هضامة» بعضهم إلى حد ضربهم! من هي هذه الفئة؟ إنهم ذوو الاحتياجات الخاصة
قاسم س. قاسم
«الله لا يسامحكم، الله لا يوفقكم، حرام عليكم يا ولاد الكلب». يصرخ فادي في وسط الشارع الرئيسي لمنطقة برج البراجنة بمجموعة شبان يسخرون منه. صراخ الشاب يلفت انتباه المارة وركاب السيارات المتوقفة في الشارع. يركض الشاب الثلاثيني هرباً من الشباب «الصايعين» والعاطلين من العمل، الذين كانوا متجمعين في أحد أزقة المنطقة، لكنهم أبَوا أن يتركوه، إذ إن «مخزونهم من الزناخة» لم ينته بعد. يلحق به أحدهم على متن دراجته النارية كي «يفضّي» ما بقي من «سآلة» على الشاب. «صوّر وجهه كي نرسلها إلى الاستخبارات، صوّره فهو الذي قتل الحريري»، يقول الشاب الذي يقود دراجته لصديقه الذي يجلس خلفه ضاحكاً. فادي معروف في منطقة البرج بأنه «بسيط»، أي إن قدراته العقلية محدودة. يهرب فادي وهو يخبئ وجهه من الشباب الذين لحقوا به. يختبئ في مدخل أحد الأبنية هرباً منهم. يقف لبرهة منتظراً ومتوجساً، ثم فجأة يبدأ بالبكاء. يختلط صوت نشيجه بدعاء من القلب على من يضطهده، عدته للدفاع عن نفسه «الله يضربهم، متل ما ضربوني، الله يحرق قلب أهلهم عليهم»، يقول.
فادي، بالرغم من «بساطته»، إلا أنه يبدو لمن يتحدث معه مدركاً لطبيعة حالته. فهو كما يصف نفسه «بسيط، الله يضربهم ويصيروا متلي»، يقول وهو يمسح دمعه.
وفادي ليس حالة وحيدة. فلكل منطقة، أو حيّ، أو قرية، بسطاء مثله، حتى معوقون عقلياً، أو جسدياً. فجأة يصبح لهؤلاء «ألقاب». ألقاب لم يطلقوها على أنفسهم، بل أُطلقت عليهم بسبب موقف معين تعرضوا له أو كلمة قالوها بطريقة مغلوطة. بسهولة يصبحون ضحية، فريسة، تماماً كالقطط الشاردة والأولاد في الأحياء الفقيرة. كل ذلك لأن قدراتهم العقلية محدودة. ومع أن ظروفهم هذه كان يجب أن تستدر عطف محيطهم ومساعدته، إلا أن بعض «الشباب الطيبة»، يأبون إلا «المزاح» مع أمثال فادي. بالنسبة إلى هؤلاء، فإن ما يفعلونه هو مجرد «عم نمزح معه»، يقول أحمد قبيسي الذي كان يلاحق فادي. يضيف ضاحكاً: «لكنه لا يحتمل مزحنا. ماذا بإمكاننا أن نفعل؟». إجابة قبيسي توحي أن من يمزح معه قادر على الدفاع عن نفسه إن لم يعجبه المزاح. كأنه بكامل قواه، وعليه أن يتقبل مزحه. يمضي الشاب في طريقه ليُري أصدقاءه ما التقطته عدسة هاتفه من صور لفادي. تراهم من بعيد يتحلقون حول «الموبايل» وتتصاعد ضحكاتهم.
و«الزناخة» ليست حكراً على أبناء منطقة البرج فقط. إذ إن استضعاف ذوي التخلف العقلي هو ثقافة عامة موجودة تقريباً لدى فئة كبيرة من الشباب في جميع المناطق. في منطقة المنشية مثلاً، كان نمر «المنغولي»، كما يلقبه أبناء تلك المنطقة، يصرخ بأعلى صوته مستجيراً من شبان كانوا يضطهدونه. نمر لا يستطيع الكلام، لكن الأصوات التي كانت تخرج من فمه لم تكن تشبه إلا موسيقى الشتائم. تنظر إلى «المجموعة»، فتبدو لك من تصرفات أفرادها والحركات التي كانوا يقومون بها أمامه، كأنهم هم من يعاني نقصاً حاداً في الذكاء! هكذا، وقف أحد هؤلاء الشبان ليرقص أمام نمر، يضربه على رأسه الأصلع على وقع أنغام أغنية للمطرب السوري علي الديك. يبدأ نمر بالصراخ مجدداً، وهذا هو الهدف من مزاح الشباب على ما يبدو، إذ بمجرد سماعهم لصرخاته كانوا «يغشون» من الضحك. فجأة، يتوقف الشاب عن «هضامته» ليتفقد ما صوره صديقه الواقف إلى جانبه، على هاتفه، ثم يعود إلى ما كان عليه ليبدأ بتسجيل جزء آخر له. في النهاية، يترك الشبان نمر ليمضي بهدوء، بعدما رأوه يبكي بصمت.
هكذا، بدلاً من العمل على تطوير قدرات هؤلاء في مجالات قد يبرعون فيها. تراهم أصبحوا ضحايا «للطبيعيين» أو من يظنون أنفسهم كذلك. فمثلاً، أشهر عازف للكونترباس وللتشيلو في أميركا، هو نثانيل آيرز، وهو من أصحاب الاحتياجات الخاصة. اليوم هناك معهد لهؤلاء في أميركا يعمل على تطوير أداء هذه الفئة وتحسينه، ويحمل اسم آيرز، الذي اكتشفه صحافي تحت أحد جسور لوس أنجلوس. هذا في أميركا، أما أمام مخيم برج البراجنة، فيقف أحمد الملقب بـ«لغلغ». أحمد تعرض لإصابة في رأسه خلال الحرب الأهلية أفقدته بعض قدراته العقلية، إضافة إلى عرج في ساقه يجبره على جرها خلفه، وهو سبب اللقب. الشاب الأربعيني لا يكلم أحداً، وإذا أراد أن يتحدث مع أحد، فإن أسئلته له ستكون دينية. يوقفك أحمد ليسألك: «ما هو اسم والد الإمام علي؟». تجاوبه: «أبو طالب». يضحك الرجل لعدم معرفتك الجواب، «لا، لقبه أبو طالب، بس اسمه عبد مناف». فجأة يركض فتى بالقرب منا صارخاً: «لغلغ». اللقب بمثابة زر التفجير لدى أحمد. فجأة، تجتاحه موجة غضب عارمة، ويبدأ بالصراخ على الفتى: «الله لا يسامحك، يا ويلك من الله». يركض أحمد باتجاه الحائط لينهال عليه، أي على الحائط بضربات من رأسه. يسيل دم الشاب على وجهه، لكن ذلك لا يمنعه من إكمال فعلته. يكرر ضرب رأسه إلى أن يجرؤ أحد معارفه على الاقتراب منه وإيقافه، ويمسح دمه بقطعة مبللة بالماء. يجلس أحمد على الرصيف وهو يبكي ويصرخ بأعلى صوته: «الله يحرق قلب أمك عليك، الله يحرق قلب أمك». تمر سيدة بالقرب منه تعطيه بعض الفواكه التي كانت تحملها معها من السوق، «انظري ماذا يفعلون بي» يشكو إليها كأنها أمه. يمسك بالتفاحة، ويبدأ يلهو بها، فيهدأ بعض الشيء. لكن ما إن يهدأ الرجل، حتى يعود الفتى ليصرخ مجدداً به «لغلغ»، فيعود أحمد إلى الفوران غضباً، بطريقة أشد وأقوى، حيث يبدأ بتحطيم العبوات الزجاجية الفارغة المنتشرة حوله.
هنا ينهر أحدهم الفتى الذي ركض ضاحكاً غير مدرك لخطورة ما يفعل، باتجاه المخيم. تحاول السيدة تهدئة أحمد مجدداً، لكنها لا تنجح. تتركه وهي تردد «الله لا يسامحكم، هيدا لو ببلاد برا كانوا ضبّوه من الشارع، هون بيزيدوا المجنون جنون»، هي الأخرى تظنه مجنوناً.


رأي علم النفس

«الإنسان الطبيعي لا يسخر من هؤلاء»، تقول الطبيبة النفسية بيلا عون. «من يسخر منهم يشعر بأن المعوق أصبح مرآته، وبأنه يشبهه، لذلك يخاف منه. لذلك، لكي يخبئ ضعفه، فإنه يتصرف بهذه الطريقة. قد لا يكون «اللي عم يتمسخر» يعاني نقصاً جسدياً، لكن في داخله يعاني نقصاً ما». تضيف: «فعندما يرى المعوق أمامه، يكون قد حرك فيه ذكريات أليمة ونقاط ضعف موجودة في اللاوعي أو نوعاً من الإعاقة النفسية مثل الشعور بالتشوه وبالبشاعة». «كل مزحة في شي حقيقة منقصدو من وراها، واللي بدو يمزح ما بيمزح بهيدي الطريقة» تقول.