انشغلت وسائل الإعلام خلال اليومين الماضيين بكلام المدعي العام الدولي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري نشره موقع إخباري إلكتروني. وجرى التركيز على نفي بلمار صدور القرار الاتهامي في أيلول، بينما تضمّنت المقابلة كلاماً يستحقّ نقاشاً واسعاً
عمر نشّابة
يصرّ المدعي العام الدولي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري على تبرئة ذمّته من كلّ الشكوك التي تلمّح إلى خضوعه للتسييس. لكن خلال المقابلة نفسها التي أجراها معه الزميل أرثر بلوك (نشرها الموقع الإلكتروني الإخباري «ناو ليبانون» يوم أول من أمس 31 آب 2010) عبّر المسؤول الكندي الذي يتولّى لأوّل مرّة مركزاً في القضاء الدولي، عن رأيه بما صدر عن قوى 14 آذار، مؤكداً موافقته مع قولها «لن نقبل القرار الاتهامي إذا لم يكن مرتكزاً على أدلّة صلبة». ويبدو ذلك الموقف البلماري مسيّساً استناداً إلى أربع قرائن ظرفية:
أولاً، اختار المدعي العام التعليق على موقف سياسي علني لفريق سياسي في لبنان، بينما رفض خلال المقابلة نفسها التعليق على موقف سياسي علني لفريق سياسي آخر عبر قوله «لن أعلّق على موقف السيّد نصر الله أو حزب الله». ألا يشير ذلك إلى ازدواجية معايير؟
ثانياً، وعملاً باستقلالية المحكمة الدولية التي يدّعي بلمار اعتمادها، لا صلاحية لأي قوة سياسية بقبول أو عدم قبول ما يصدر عن المدعي العام الدولي (بعد مصادقة قاضي الإجراءات التمهيدية) فلماذا يسمح المدعي العام لنفسه بمنح قوة سياسية هذا الحقّ؟
ثالثاً، ألا يدرك بلمار أن القوى السياسية لا تتمتّع بالقدرة المهنية لقياس مدى صدقية الأدلة والقرائن التي يستند إليها الادعاء لإصدار القرار الاتهامي؟ هل الرجل ساذج لدرجة أنه مقتنع بأن الإعلان السياسي عن عدم قبول الاتهام إذا لم يكن يستند إلى أدلّة صلبة ينبع من حرص قوى 14 آذار على العدالة؟ هل نسي أن قوى 14 آذار كانت قد أعلنت، مستبقة نتائج التحقيق خلال نحو أربع سنوات، أن سوريا اغتالت رفيق الحريري وأقامت الدنيا ولم تقعدها على هذا الأساس؟
رابعاً، بلمار وأركان مكتبه يعلمون جيداً أن نصوص القرارات الاتهامية التي سيصدرها لا تتضمّن الأدلّة التي تستند إليها بل إن تلك الأدلة ستعرض لاحقاً خلال جلسات دوائر المحكمة. وهو يعلم أن عليه الالتزام بقرينة البراءة حتى صدور الحكم النهائي. فلماذا اختار إهمال توضيح ذلك لقوى سياسية طالما نسفت قرينة البراءة خلال السنين الماضية، واستعاض عن التوضيح بإعلان تضامنه مع موقف قوى 14 آذار السياسي؟
على أي حال، إن أجزاءً عديدة من الكلام الذي أدلى به بلمار خلال مقابلته الإعلامية الأخيرة يستحقّ النقاش. ندرس معاً اثنين من أبرزها في الآتي (والباقي في حلقة ثانية غداً).
فريق عمل «مذهل»
قال بلمار «لدي فريق مذهل جداً يعمل أعضاؤه خلال الأشهر الماضية بكلّ طاقتهم لإنتاج الأدلّة». وقد يفهم من ذلك أن المدعي العام حريص على معنويات الموظفين الدوليين بعدما مضى على انطلاق المحكمة الدولية أكثر من عام ونصف ولم يصدُر قرار اتهامي واحد وليس هناك مشتبه فيهم ولا موقوفون. لا يمكن أن ينفي بلمار أن هذا التأخير غير مسبوق في المحاكم الدولية الخاصة (فليراجع وفريقه البرامج الزمنية لمحاكم يوغوسلافيا السابقة ورواندا وسيراليون وكامبوديا إذا شاء) لكنه يحاول أن يرفع المعنويات عبر إشارته اللافتة إلى التأخير في إصدار القرارات الاتهامية في تفجير الخُبر في المملكة العربية السعودية وتفجير أوكلاهوما وفي محكمة لوكربي، علماً بأن الحالات الثلاث لم تكن من اختصاص محاكم دولية خاصّة. ويبدو من خلال ذلك أن الرجل مضطرّ لتوظيف معلومات غير دقيقة لرفع معنويات فريقه عبر الإعلام.
لكن الموضوع لا يتوقّف عند ذلك الحدّ، بل يعود بنا إلى كلام أدلى به بلمار نفسه إلى «الأخبار» في شباط 2009 بخصوص تعيينه نيك كالداس رئيساً لفريق المحققين، حيث قال (الحديث مسجّل): «أنا أؤكد أن كالداس كان أفضل المرشحين لهذه الوظيفة، ويسعدني العمل مع السيد كالداس، وأعتقد أن الشعب اللبناني يُفترض به أن يكون فخوراً بوجود شخص من مستوى كالداس»، وأضاف «ما أستطيع قوله هو أن عمله سيثبت ما أقول، الأمر الوحيد الذي أطلبه هو أن تعطوا كالداس فرصة، وسيثبت لكم ولقرائكم أنه الشخص الذي يستحق ثقتكم. والثقة هي كالاحترام. لا تُطلب بل تُستَحَقّ». وبعد سنة من العمل اختار كالداس عدم تمديد تعاقده مع المحكمة وقرّر العودة إلى بلده أستراليا. عملاً بنصيحة بلمار نسأل: ماذا يمكن أن يعني رحيل كالداس؟ أليس بلمار نفسه من طلب من اللبنانيين (أو على الأقل من قرّاء «الأخبار») أن ينتظروا إثبات كالداس لهم أنه يستحقّ ثقتهم؟ هل يستحقّها بمغادرته التحقيق؟ هل يستحقّها بلمار بعدما اختار استبداله بضابط استخبارات بريطاني (باعتراف المحكمة، راجع http://www.stl-tsl.org/sid/182)؟ هل ما يأتي به «رئيس الاستخبارات برتبة مفوّض لفرقة مكافحة الإرهاب التابعة لشرطة نيو سكوتلاند يارد» هو ما يصفه بلمار بـ«المذهل» في فريقه؟

مصدر «تكهّنات» الإعلام

علّق بلمار خلال المقابلة أن ما يصدر في الإعلام نقلاً عن «مصادر قريبة من المحكمة» و«مصادر دبلوماسية» هو مجرّد تكهّنات، وقال «أعتقد أن الأمر حزين لقرّاء الصحف»، وشدّد على أن «الشخص الذي يعرف عن القضية هو أنا. على الناس أن تتذكّر ذلك». لكن بلمار أغفل الحقائق الآتية:

بلمار يؤكد أنه غير مسيّس بينما يعلن موافقته على موقف قوى 14 آذار

أولاً: أن نقل معلومات عن مصادر ترفض ذكر هويتها لأسباب مهنية معتمد لدى صحف غربية مرموقة يقرأها الملايين مثل لو موند الفرنسية ونيو يورك تايمز الأميركية وغارديان البريطانية ومجلّة دير شبيغل الألمانية. وبالتالي قد يصاب بلمار باكتئاب من كثرة القرّاء الذين «يشعر بالحزن» تجاههم.
ثانياً: أن بلمار ومكتبه يرفضان الإجابة عن أسئلة لا تدخل ضمن سرّية التحقيق طرحها إعلاميون عليهم. مثلاً: نشرت مواقع إلكترونية أسماء أشخاص ادّعت أنهم يعملون كمحققين في فريق بلمار. سألت «الأخبار» مكتب بلمار عن صحّة ذلك قبل نشره حرصاً على الصدقية لكن مكتب بلمار أصرّ على عدم الإجابة. إن أسماء العاملين في مكتب بلمار لا تدخل في سرّية التحقيق فلا عدالة لمحكمة يعمل فيها «أشباح».
ثالثاً: يتناسى بلمار عبر قوله «الشخص الذي يعرف عن القضية هو أنا. على الناس أن تتذكّر ذلك» أن الناس تتذكّر أيضاً أنه لا يعمل وحده وأن في فريقه من قد يسرّب معلومات عن التحقيق الجاري وعن ملفاته.
رابعاً: قد يكون مفيداً التذكير هنا بأن المتحدثة الرسمية باسم مكتب المدعي العام التونسية راضية عاشوري استقالت من منصبها في أيار الفائت (منذ أكثر من أربعة أشهر)، وتعجز المحكمة منذ ذلك التاريخ على توظيف بديل منها.


المدعي العام ليس متوازناً

يبدو أن دنيال بلمار حذر من «مخاطر» التلميح بأي شكل من الأشكال لاحتمال ضلوع إسرائيل في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فعندما سأله الزميل آرثر بلوك: «هل أجريت مقابلة مع أي شخص في إسرائيل أو أي مواطن إسرائيلي؟» أجاب: «إن هذه القضية جزء من التحقيقات المستمرّة. أكرّر أنني سأذهب حيث تأخذني الأدلّة» فعاد بلوك وسأل بإصرار: «هذا جميل، لكن هل تحدّثت إلى أي إسرائيلي؟» فقال بلمار: «لست جاهزاً للإجابة عن هذا السؤال. هو جزء من التحقيق». لكن خلال المقابلة نفسها قال بلمار إن «المقابلات مع أشخاص من حزب الله جرت بصفتهم شهوداً». وهنا نسأل: ألا يشير ذلك بوضوح إلى ازدواجية معايير بلمار عبر رفض التعليق على الاستماع المفترض مهنياً لأشخاص إسرائيليين والتعليق بالمقابل على المقابلات مع أشخاص من حزب الله؟
بغضّ النظر عن الموقف من الجهتين، وإذا أردنا (بصعوبة) أن نكون حياديين بالمطلق، ألا تدلّ تلك الازدواجية على عدم توازن موقف بلمار بالحدّ الأدنى وانحيازه لإسرائيل بالحدّ الأقصى؟