أحمد محسنظلت الأيام متشابهة حتى العاشرة من عمري. لم تنل منها القذائف. الأيام تبقى حية حتى ولو مات الجميع في الحرب. كنت ألاحظ اختفاء الموتى من الحي وحسب. موتهم يعني اختفاءهم بالنسبة إلي، كالمباني تماماً. وفي إحدى الفترات، كنت إذا ما رحل أحد أعرفه، أو شاهدته قبلاً، إلى الريف مثلاً، ثم عاد، أخاله مات وعاد من موته. بالتأكيد، كان هناك أشخاص لا يعودون. لكن الصغار يصدقون الرسوم المتحركة. يظنون أن الآباء يعرفون مكان الموت ويخفونه عنهم. وفي صفنا، كان هناك أطفال من النوع الذي يتعامل مع الموت بميتافيزيقية أسطورية، لم أستسغها في حياتي. هؤلاء، وحدهم، لم يتغيروا. وما زالوا في العاشرة من أعمارهم. كانو يريدون أن يصبحوا مقاتلين عندما يكبرون. يَقتلون ويُقتلون. لم يتغيروا.
في العطلة، حتى العاشرة، كانت أجراس المدرسة تصرخ «جينغل بللز جنغل بللز آلوايز فاين». كنا أنا وأخي نصدق هذه الهرطقة، ونبحث عن جذور شجرة الميلاد في زاوية الغرفة، ولا نجدها، فنستسلم كالقطط. وفي غرفة الجلوس، الغرفة الوحيدة حينها، كانت محطات التلفزة تبث فيلم يسوع الناصري للمرة العاشرة، فيما يسقط المطر خارجاً. من يأخذ كل هذا الماء؟ كان وزراء الطاقة والمياه أشباحاً. عرفت لاحقاً، ومن وزير أيضاً، أن الأشباح حقيقيون. كنت أخشى الأشباح والجن والجنود، لكن، كانت الشمس تسطع رغم كل ذلك. في العاشرة، نعتبر الشمس إحدى نعم الجحيم. الأرض مستديرة لأن كرة القدم مستديرة. التلفاز جميل لأنه يؤجل النوم. حظيت بدفء الأزقة ومعرفة الأطفال الآخرين، وتبادل الابتسامات مع الجارة التي لم تقرأ فرويد في حياتها. حتى العاشرة، كنا نملأ البطاقات البريدية ونعرف شكل الهواتف السلكية. ولا أذكر أني شاهدت النارجيلة في التسعينيات، وكانت أغلب الدراجات تسير على الهواء لا على النار. لم يكن هناك «فاست فوود» ولم نذهب لنأكل الدجاج المقلي بزيوت السيارات. وطبعاً، لم يكن هناك فوضى موسيقية كهذي التي نعيشها اليوم. صحيح أني لم أكن أعرف فاغنر، لكني لم أكن أعرف أيضاً أن سيرين عبد النور ستغني. منذ يومين فقط عرفت ذلك. كنت أظنها عارضة أزياء، لسذاجتي طبعاً.
تغيرت المدينة. ظهر الفان الرقم 4 مثلاً، وهذا موت يومي بطيء. اختفت حواجز الميليشيات لكن عاد الملثمون وأصحاب اللحى الطويلة التي ترعب الأطفال والكبار. لم تعد كلمة فلسطينيين ترمز إلى منظمة التحرير وأذرعتها الأمنية والعسكرية، بقدر ما صارت عالقة بين ثقافتين. الأولى، وهي السائدة، مشبعة بالشوفينية. والثانية، في انحدار متواصل. للمناسبة، كنت في طفولتي أسمع باليسار الذي ما انفك يختفي تدريجاً، حتى صار مجرد صورة في ألبوم الصور. أحياناً أفاجأ بوجوده، كما أفاجأ بأني كنت طفلاً وأن شعري كان أشقرَ وأن أذنيّ كانتا طويلتين. وأحياناً، في هذا المجتمع المتحارب، أشعر أننا كلنا أطفال، لكننا لم نفز بدباباتنا بعد، كما في فيلم La vita è bella (الحياة جميلة). الحياة جميلة ما دمنا نكذب، وعلينا التحول إلى «غويدو» كي ننقذ طفولاتنا وكآباتنا.
يعتقد أفلاطون أن الحرب هي العلاقة الطبيعية بين المجتمعات. لكنه غير مقنع. أنا أميل إلى نيتشه. وعلى ما يبدو، بوكوفسكي على حق هو الآخر، فالقبطان خرج لتناول الغداء والبحارة استولوا على السفينة.