يصر محمد فناس، مسحراتي صيدا القديمة على استحضار الماضي بكل مظاهره خلال تأديته مهمة يعتبرها مقدسة. هكذا يرتدي لبوساً مناسباً وجميلاً ويمسك بطبلته التي لم يفلتها خلال 36 عاماً من تسحير المؤمنين
خالد الغربي
لم يعد للمسحراتي الذي كان يوقظ الناس في رمضان أيام زمان، إيذاناً بموعد السحور، دور رئيسي كما كانت الحال عليه قبل عقود من الزمن، بل أصبح يؤدي دوراً هو أقرب إلى «الكومبارس» في الأفلام. هذا الدور لا يتجاوز مجرد المحافظة على تقاليد متبعة في بعض المناطق، إذ إن تطور أنماط الحياة المفروضة أدى إلى الاستغناء عن المسحراتي في إيقاظ النائمين. وفيما يمتطي المسحراتي بلال القبلاوي الحصان في أحياء منطقة صيدا الكبرى، لا سيما في عبرا وتعمير حارة صيدا، فقد ساعده وقع الحوافر على أداء مهمته. يستخدم، آخرون الفان مستعينين حتى بمكبرات الصوت لبث الموشحات الدينية. لكن محمد فناس، مسحراتي الحارات القديمة في صيدا، لم يقتنع بتغير هذه الظروف وبقي محافظاً على مهنته بكل مظاهرها التقليدية، وخصوصاً أنّه اعتاد «التطبيل» في تلك الزواريب الضيقة في المدينة طوال 36 عاماً. كان عمر المسحراتي 15 عاماً حين خرج إلى ساحة «التسحير» التي لم يبرحها منذ ذلك الحين لسببين اثنين، كما يقول، «أولهما نابع مما يفرضه عليه الواجب الديني وثانيهما الحفاظ على الموروث والتقاليد».
يوقظ فناس الصائمين على وقع موشحات دينية يصدح بها بصوته الشجي، بينما يده تقوم بنقرات ثلاثية على الطبلة. ومن جمله المألوفة: «يا عباد الله وحدوا الله وقوموا على سحوركم جايي الإيمان يزوركم».
ينطلق الرجل في رحلته «التسحيرية» عند الثانية من بعد منتصف الليل من منزله الكائن في المدينة القديمة، بعدما يقوم بما يشبه التمرين على الأداء والصوت ثم يلبس زياً تقليدياً هو عبارة عن عباية وشملة وقبعة خضراء. لا ينسى فناس «تكحيل» عينيه كسنّة نبوية، بحسب تعبيره. ثم يحمل فانوسه في يده ليجول في الأحياء لمدة ساعتين يضطر خلالهما لإعطاء سراج فانوسه دفعاً كلما لزم الأمر، وخصوصاً في بعض الزواريب المظلمة أو عند انقطاع الكهرباء.
يغني الرجل «رمضان تجلى، وصمنا والصوم مبارك، ويا نايم وحّد الدايم»، فيما يطل من نوافذ الشرفات قاطنو البيوت المجاورة ليلقوا السلام عليه، مطمئنين إياه بأنهم قد لبوا دعوته إلى السحور مغادرة النوم.
بات فنّاس يعرف هوى الناس في المكان، فيكيّف إيقاع الغناء الموشحاتي ونقرات الطبلة على هذا الأساس، فتارة يكون الصوت خفيضاً، لأنّ الحاجة أم محمد «بتفيق من نسمة الهواء»، كما يقول، على عكس أبي حسن المكاري «اللي نومه عميق»، ما يدفع بالرجل إلى زيادة الضرب بقوة على الطبلة.
غالباً ما تكون الساعتان اللتان يقضيهما المسحراتي في الشارع حافلتين ليس بالتطبيل وغناء الموشحات والمواعظ الدينية فحسب، بل أيضاً بمشاهدات وطرائف ومقالب، منها على سبيل المثال ما

لا ينسى فناس تكحيل عينيه التزاماً بالسنّة النبوية كما يقول
يقوم به بعض الفتية والمراهقين من نصب كمائن للمسحراتي راشقين إياه ببعض المفرقعات التي تسقط على مقربة منه محدثة صوتاً قوياً. يعلق فناس على هذه المقالب بالقول: «لا يعدو الأمر مجرد مزاح مقبول». ثم يقول: «عيب بفيقوا الناس من نومهم»، قبل أن يتذكر أن عمله يقضي أيضاً بإيقاظهم. لكنه يميز بين الأمرين بالقول: «الناس اللي بتفيق على صوت الموشحات وذكر الله مش مثل اللي بتفيق على صوت الانفجارات».
في بعض الأحيان، لا يتردد المسحراتي في سؤال بعض من يوقظهم في الأحياء: «شو عاملين اليوم؟» فيأتيه الجواب: «من خير الله مناقيش، بجبلك واحدة بزعتر أو بجبنة أو بدك صحن فول؟».
ومع ذلك، تعترف مريم عفارة «بأن الناس لم يعودوا يعتمدون على المسحراتي لإبلاغهم بموعد السحور، وخصوصاً أنّهم باتوا في رمضان يسهرون حتى ما بعد السحور ولا يحتاجون إلى من يوقظهم». كان هذا جائزاً قبل ثلاثين سنة، تقول، إذ كان الناس يغفون باكراً خلافاً لليوم حيث وسائل السهر والفضائيات والسهرات الرمضانية.
يُقر فناس ضمناً بانتفاء دوره وعدم الحاجة إلى المسحراتي لكنه يقول: «ما يجعلني متمسكاً بالتطبيل في رمضان هو المحافظة على تقاليد هذا الشهر»، من دون أن ينفي سعيه إلى الحصول على «قرشين إكرامية عملي التي يجود عليّ بها أهل الحارات الذين أوقظهم».