أنسي الحاج
مرايا للجميع
لم أقرأ بعد رواية «مرايا لها» لسمر يزبك. قرأتُ مقابلة عناية جابر معها في «السفير». استوقفني توجيه عناية، بحسّها المرهف وعمق التقاطها، الأنظار إلى مواضع معيّنة في الرواية لا تُشوّق لمطالعتها فحسب، بل تُحمّس المؤلّفين للخوض في مثل هذه القضايا. العلاقة، مثلاً، مع الطائفة، ومع نظرة الآخرين إلى الطائفة، ومع نظرة ابن الطائفة إلى نفسه وإلى العالم. تتحدّث سمر يزبك عن العلويّين. ويبدو خلال المقابلة ومن أجوبة الروائيّة أن التجربة المسرودة مفعمة بالمعاناة. مجرّد الدخول من أبواب مرصودة كهذه تحدٍّ ومغامرة، حقلُ ألغام وألغاز بكر يتطلّع إلى مَن يجرؤ على اقتحامه.
الأقليّات العرقيّة والمذهبيّة والطائفيّة والسلوكيّة تطوي صدورها مقهورة على تجارب من السهل أن يكوّن المرء فكرةً عن مركّباتها وآلامها وكوابيسها. لقد تجاسر القلم، والقلم النسائي تخصيصاً، على المحظور الجنسي، ولم يتجاسر على الخوض في بحار الباطنيّات.
بالأمس تلقّفتُ من السوق كتاباً لندى عبد الصمد عن يهود وادي أبو جميل اللبنانيين وطالعته بنَهَم ورهبة: النهم لأنّه يشرّع الأبواب على عالمٍ مكتوم ومحصّن، والرهبة لأنّه أعادني بالذاكرة إلى عهد الصبا، يوم حملني شيطان الفضول على النزول إلى ذلك الحيّ البيروتي الضيّق وسط بيروت، بحثاً عن وجوه أولئك الذين نسمع عنهم ولا نراهم، ونتعلّم ديننا بعد دينهم، وترتبط بُنى خيالاتنا بأساطيرهم، ونُعجب بهم ونخافهم، ونصدّقهم وبالأكثر نكذّبهم، ونحار وتضيق صدورنا بعبقريّة احتكارهم لدور الضحيّة، ونتساءل: لماذا هم في «غيتو»، وكيف يعيشون، وما هي حوانيتهم، وما هو كنيسهم، وكيف تتمشّى صباياهم في الطريق؟ لا أزال أذكر القشعريرة التي عَرَتني وأنا أسير كاللصّ بمحاذاة المعبد، وبالكاد أتجرّأ على استراق نظرةٍ إليه وكأنّي أرتكب اعتداء، وكيف خرجتُ من مضيق الوادي، وكان ذلك في مطلع ستّينات القرن العشرين، باكتشافٍ أذهلني، وهو أن ردّ فعلي كان خليطاً من انفطار القلب لمشهد هذا «العزل» أو ذلك «الانعزال»، ومن الارتياح النفسي لكون أقليّة من الناس استطاعت منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة أن تحافظ على خصوصيّتها. لكن أشدّ ما أحبطني بعد تلك الجولة الراجفة شعوري بأنّي فتحتُ باباً مرصوداً ودخلتُ إلى أرضٍ مغلقة وخرجت من بابٍ مرصودٍ وقد ازداد المغلق في رأسي انغلاقاً.
الباطنيّات والأقليّات والهامشيّات تغدو، في ظروف معيّنة، متناً وجوهراً. لقد اعتدنا البحث عن حقائق هذه العوالم في مؤلّفات أجنبيّة، على الأغلب مهرّبة تهريباً إلى بلادنا. نظرة الآخر مهمّة، وقد تُعلّمنا عن أنفسنا أكثر ممّا تُعلّمنا أنفسنا، لكنّنا في شوقٍ وفي حاجة إلى معرفة معاناتنا نحن مع محيطنا وتربيتنا ومعزولينا وعازلينا وأشباحنا وعصبيّاتنا. ومع مسبّبات كوننا ما نحن اليوم، وبصفاء وصدق ودون استفزاز ولا «استشراق» ولا إكزيبيسيونيّة ترويجيّة. والرواية، وسائر السرديّات، هي الأكثر أهليّة لاستنطاق هذه الأغوار واستضافة تفصيلاتها.
أُطلقُ هذه الأمنية بلا أوهام، نظراً لرسوخ الخوف. وكلّنا نعذر مَن لا يجرؤ. ولكن يمكن الحديث عن أخطر الموضوعات وأكثرها حراجة من دون جرح المشاعر أو الإساءة. لا أحد يطلب من الدرزي أن يتخلّى عن تهذيبه ورفعته ولا أن يخون مبادئه ومعتقداته إذا كتب عن عادات بيئته وتقاليدها وعن تنازع محتمل لدى بعض الجيل الجديد بين تربيته ومحيطه وبين نداء الحداثة، ولا إذا كتب عن هواجسه كأقليّة بين أكثريّات تزداد تضخّماً، أو مرارته عندما يقارن بين سؤدد ماضي السلطة الدرزيّة في لبنان وحاضرها. الأمر نفسه بالنسبة إلى الشيعي، شيعي الإسلام وشيعي الشيوعيّة وشيعي التيه. وإلى الماروني، ماروني الريف وماروني العلم وماروني المظاهر وماروني الخوف، ماروني الجهر وماروني الكبت، الماروني الذي كان جدّه سنيّاً أو شيعيّاً أو درزيّاً أو من عمق أعماق الجزيرة العربيّة، الماروني الذي يدفع وسيظلّ يدفع ضريبة تربّعه عقوداً على حكم لم يهنأ به من الموارنة غير حفنة وصوليين، ولم يستطع ولا لحظة أن يمنح الماروني العادي سلامه النفسي في تعايشه مع الطوائف الأخرى. والقبطي. والأرثوذكسي. والروم الكاثوليك. والبروتستانتي. والإسماعيلي. والبهائي. والغجري أو البدوي. والأرمني والآشوري والسرياني والكلداني. والغريب، خصوصاً هذا، بين هؤلاء. قبل أن نهدم الجدران بين طائفة وأخرى فلنبدأ بفتح الكوى في الجدران التي بين الواحد وذاته، وبين ذاته وبين التنفّس. لا لنجلد ذاتنا ولا لنعظّمها بل لنوجد تراثاً من الإنسانيّات الدافئة محلّ الجهل العدواني المتبادل.
ما يفزعنا لدى الآخر يمكن، بالكيمياء الأدبيّة والفنيّة، أن يتحوّل إلى مصدر حبّ. هذا ما تفعله السينما حين تسلّط مصابيحها على المجاهل والمجهولين فنمسي على إعجاب بما كان يخيفنا، ونكتشف أن ما كنّا نحسبه غريباً مستهجناً قد يكون أقرب إلينا من أنفسنا.
والشيء بالشيء: تجربة التعصّب الطائفي والمذهبي معالجَة في العديد من الكتب، ولكنها في الأغلب تجربة المعاناة من تعصّب الآخرين. أتمنّى أن أطالع قصّة أو مسرحيّة أو مذكّرات أو سيرة ذاتيّة أو مقالة يتحدّث فيها كاتبها عن تعصّبه، عن تعصّبه هو، بكل شفافية، بالعِقَد والموروثات والأحقاد والاشتهاءات الدمويّة التي سمعنا أو شاهدنا انفجاراتها الواقعيّة تُلطّخ تاريخنا وشوارعنا ونفوسنا منذ دهور ولا تزال. حرّكت القضيّة الفلسطينيّة كثيرين بيننا شعراً وقصّة وغناءً وسينما وتشكيلاً وصحافة، وعجزت أزماتنا الوجوديّة الأشدّ تجذّراً فينا والأكثر تحكّماً بتصرّفاتنا عن إلهامنا عملاً واحداً خالداً. ولا نزال ندفع ثمن الميراث الملعون كلّما أطلّ جيلٌ وحمله استهزاء القَدَر على البدء من جديد: بدء الحياة وبدء الموت.

«بيت»
بين يديّ العدد الأول من مجلة «بيت» الفصليّة الصادرة عن بيت الشعر العراقي، دسمة أنيقة تغلي بالقلق والتطلُّع. يقول أدونيس في كلمته التقديميّة: «القصيدة بصيرة (...) النصّ الشعريّ الذي لا يحتاج في قراءته إلى تأويل إنما هو نصٌّ فارغ. فالقصيدة التي تُفْهَم دون أيّة حاجة إلى التأمّل والمساءلة، لا تكون أكثر من قشّ لغويّ».
استوقفتني افتتاحية رئيس التحرير أحمد عبد الحسين، وأدهشتني مقاطع فيها يأتي مقالي السابق هنا في سياقها تماماً، وأسمح لنفسي ببعض الاستشهادات منها، رغم أن مدار مقاله هو عن الشعر، ولكن المصادفة تشاء ما قد لا يكون في حسبان الإرادة. يقول: «لسنا بارعين في التكلُّم مع أنفسنا، لهذا يخاف واحدنا الاختلاء بنفسه، لأن ذاته ستُشْكِلُ عليه، ولأنه يخشى أن تظهر على غير الهيئة التي يؤمِّل هو أن يراها بها (...) لم نلتقِ بذواتنا من قبل (...) في سياستنا، كما في ثقافتنا، لم نلتقِ على الحقيقة بأنفسنا ولا بالآخر على حدّ سواء، فلم نخاطبهما ولم نتوجّه إليهما، وإنّما شُبِّهَ لنا. ألهذا نعتني بالشعر؟ ألِأنَّ الشعر يوفّر لنا خطاباً لا يجرح نرجسيّة تصوّرنا عن هوية صمديّة، ولا يضطرنا إلى مفارقة بيت الذات المتوهّم لمخاطبة آخر؟ ألهذا نحن أمّة شاعرة؟».
سؤال خطير، يشكّل مدخلاً إلى محاكمة للذات العربيّة على مدى التاريخ قبل أن يكون مجرّد محاكمة للشعر التقليدي و«لشعرٍ هو تنويمة الإنسان لوعيه كي يغطّ في سباتٍ عميق». شخصيّاً، لا يخامرني شكّ بأن العرب مارسوا الشعر، في الأعمّ الأغلب، هرباً من الذات ومن الآخر معاً، أي هرباً من الحقيقة. والمأساة أنّهم لم يستطيعوا أن يحقّقوا من هذا الهرب إلّا ما يشبه تدخين النراجيل، تحشيشةً من هنا وتحشيشة من هناك، ولم يبنوا عوالمَ متماسكة بأركانها وفروعها، لغةً وروحاً. ولا يُهوّن من المشكلة أن نحتمي بشُهُب كأبي نواس والمتنبي.
لماذا نعوّل على السرديّات والرواية للدخول إلى ذواتنا وإلى ذات الآخر ولا نعوّل على الشعر؟ لأنّ الشعر الحديث اقتحم هذا الطريق بصورة عفويّة واقتحامه هذا هو، في الواقع، أحد أسباب الحذر منه والهياج عليه واعتباره هجيناً ثقيل الوطأة. إن دعوتنا الرواية والسرديّات لسبر أغوار الذات الفرديّة والاجتماعيّة سبراً شاملاً ليست بسبب تقصير الشعر عن الاضطلاع بهذا الدور، بل لأن هذا الدور أشبه ما يكون بالرسالة، والشعر كما يقول أدونيس في كلمته ذاتها، «لا يقدّم رسالة وإنما يقدّم رؤية. الرسالة شأن آخر يقوم به كلام آخر». هذا الكلام الآخر هو ما نعنيه بالسرديّات. ما يَبْسطه بلزاك وستندال وديكنز ودوستيوفسكي وتولستوي وزولا وفولكنر وكافكا وسيلين وجونيه وسارتر وبيكيت ويونيسكو في سرديّاتهم ومسرحهم، وما سبقهم إليه روسّو ودوساد، ليس من مهام الشعر. الشعر ذروة الاستخلاص، روحه البرق وبرقه لسانه، الرواية مسرحٌ مفتوح لمختلف العوالم، مزيجٌ من الثرثرة والغناء، من المفاجآت وتسخير العلوم، إنها إبحار من شاطئ بيّن نحو آفاق مجهولة وقد يصل البحّار إلى مرافئ لم يعلم بها. الشعرُ ولادة والروايةُ تشريح. الشعرُ معرفة دون برهان، الروايةُ مختبر. الرواية حلبةُ مصارعة ومرتَفَعُ انتحار، معرض طبائع من القدّيس إلى العادي إلى المجرم. الشعر محكّ ذاته، الروايةُ محكّ علوم الحياة والمجتمع والعادات والتقاليد والأمراض والخَلَاصات. الرواية محكّ الكتابة ومحكّ الذكاء الذهني والذكاء النفسي. الرواية هي الملحمة الحديثة.
وكفى مقارنة فهي أقربُ إلى عَبَث يرغي. الأنواع الفنيّة تتلاقى جميعاً عند نقطة مشتركة هي الشعر. الشِّعْريّة، الشاعريّة، الشعر، لا فرق. هنالك حيث يدُ الإنسانِ تصبحُ يدَ اللّه.
تحيّةً إلى المجلّة الجديدة، العراقُ الخلّاق يعلّمنا كلّ لحظة كيف يُماتُ الموت.