عدلون، بلدة يعرفها اللبنانيون ببطيخها العدلوني، لكنهم يجهلون أنها من أهم المناطق الأثرية. مغارات استُعملت قبل 150,000 سنة، ومدينة بيزنطية حفرت في الصخر مقابرها وشواهدها، فأتت البيوت الحديثة لتغطي عليها وتدمرها
كامل جابر
تتميز آثار بلدة عدلون الساحلية (جنوبي مدينة صيدا) بجمالها المخبأ تحت الخراب المتقدم الذي تعانيه، إذ عايشت منذ عصور وحتى أيامنا هذه، عهوداً من الإهمال الذي لم يتوقف عند تجاهل القيمة الحضارية والتاريخية لهذه الآثار، بل تعداه إلى الاعتداء عليها والبناء فوقها واستخدامها في أمور معيشية وخدماتية، على نحو تحويل عدد كبير من النواويس إلى خزانات للمياه والصرف الصحي.
بين صنوف الأشواك والردم «الطارئ»، وعلى امتداد كيلومتر بخط مستقيم، ومساحة تتجاوز خمسين دونماً تتصل فيها التلال المجاورة بالبحر، تتوزع مجموعة كبيرة من الصخور التي تشير المنحوتات الرائعة عليها إلى أنها كانت مركزاً حياتياً بين الفترتين الرومانية والبيزنطية.
ويؤكد الرئيس السابق لبلدية عدلون الدكتور حمزة عبود أن الأهمية التاريخية لهذه البلدة لا تتوقف عند المغاور والكهوف والنواويس، بل تمتد إلى شاطئ البحر، حيث يقبع ميناء قديم ومراسٍ للسفن وأجران كانت تستخدم ملّاحات (لاستخراج الملح الأبيض). يعرض عبود في حديث إلى «الأخبار» تاريخاً طويلاً من الإهمال «تعانيه آثار عدلون، وكأن ثمة قراراً عند الدولة اللبنانية ووزاراتها المعنية بتجاهل هذه الآثار وتركها في مهب الإهمال والاعتداء عليها، أو في عدم مشاركتنا المعلومات العلمية عن هذه المكتشفات».
تقنية حفر هذا الحجر حددت عدلون باعتبارها من مراكز الاستيطان الأولى في العالم
يتذكر عبود كيف أن فريقاً بريطانياً أتى إلى مغارة أم البزاز وعمل فيها. ويقول: «كنا يافعين يوم وصل هذا الفريق وبدأ التنقيب في المغاور. وأذكر أنهم حفروا ثقوباً في أرضها على شكل جور اكتُشفت فيها أحجار صوان، ويقال جماجم وقطع فخارية أيضاً. نحن لم نعرف على ماذا عثروا، لكن ندرك أن الدولة أقفلت باب المغارة ببوابة من حديد على أمل العودة إليها، ومرت عشرات السنين ولم يعد أحد». لكن حصل ما هو متوقع. فالتنقيبات الأثرية التي بقيت نتائجها أسراراً مخبأة عن السكان أثارت فضول البعض، وطمع البعض الآخر الذين راحوا ينقبون في مغاور أخرى محيطة بالقرية على أمل العثور على الذهب.
لكن ما من ذهب في عدلون. فهذه المنطقة سكنها رجل الكهوف الذي لم يستعمل إلا حجر الصوان. لكن تقنية حفر هذا الحجر حددت عدلون باعتبارها من مراكز الاستيطان الأول في العالم، ونتائج تلك الحفريات العلمية تدرس في الجامعات. لكن ذلك لم ينفع في إنقاذ الموقع من براثن البناء العشوائي. في سنة 1967 جرت أول عملية بناء على آثار بلدة عدلون، إذ بُني بيتان من دون أن تتدخل السلطات المعنية، ثم جاءت سنوات الحرب الأهلية لجعل عملية البناء بين المغاور وعلى الصخور المنحوتة أمراً بديهياً لا تردعه سلطة «منذ عام 1975 وأبناء البلدة يستثمرون آثار عدلون في عملية بناء عشوائي، فتُستعمل المنحوتات ركائز للبيوت أو أساسات تقوم عليها مجموعة من المساكن.
كذلك فإن النواويس تُحَوّل إلى خزانات للمياه، والمقابر المنحوتة تُستخدَم كجور صحية للبيوت. وفي كل ذلك، تبقى السلطة الشاهد الصامت الذي لا يتدخل».
ويشير إلى أن البلدية السابقة في عدلون «أطلقت حملة من للاهتمام بآثار عدلون وطرقت أبواب وزارة السياحة والمديرية العامة للآثار، وكانت تتلقى الوعود وتسمع الكلام المعسول على الأهمية التاريخية لعدلون، لكن لم نر محاولة واحدة للاهتمام. نظفنا عدة مرات المحور الذي تنتشر فيه بعض الآثار، ولجأنا إلى جمعيات أهلية وعقدنا لقاءات عديدة في سبيل تعزيز حملة للاهتمام بهذه الآثار، لكن سرعان ما كانت تتبدد الوعود والأحلام» بحسب عبود.
ويؤكد مصدر في المديرية العامة للآثار، أن آثار عدلون مصنفة على لائحة الجرد العام، وهي منطقة أثرية مستملكة من جانب المديرية العامة للآثار. ويشير إلى أن الموقع متعدد المراحل التاريخية، فمغاوره تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، وآثاره إلى الفترة البيزنطية، وبالتأكيد فإن الحفر والتنقيب سيكشفان عن منطقة أثرية مهمة جداً.
المصادر عينها أكدت أن الدولة اللبنانية «بدأت بمحاولات لسبر غور آثار عدلون، بمشروع كان يهدف إلى حصر التعديات على هذه الآثار وإيجاد آلية لإزالتها، لكن المشروع توقف لأسباب تقنية».


آثار دفينة وأخرى مشوّهة



جوان فرشخ بجاليويعود اسم بلدة عدلون إلى تسمية فينيقية تترجم بإلهة الاحتفال، وفي الفترة الهلنستية عُرفت المدينة باسم مدينة العصافير Ornithon Polis كما كتب المؤرخ سترابون. أمّا في الفترة الرومانية، فعُرفت باسم «تغير ادنون»، الذي حُوّر إلى العربية لاحقاً: عدنون، كما كتب ياقوت الحموي في القرن الثالث ميلادي. لكن الجدل القائم حول أصل الاسم لم ينتهِ بعد، وخاصةً أن بعض العلماء يرون أن المدينة هي نفسها معروبو المذكورة في جداول الملك اسرحدون، ويؤكّدون أن تلك المدينة لا تزال مدفونة تحت موقع تل رأس أبو زيد. لكن تلك هي النظرية التي لا تؤكد أو تنفي إلّا بعد حفريات أثرية علمية.
ويرى العلماء أن سبب ازدهار هذه المدينة تاريخياً يعود أولاً إلى موقعها الجغرافي الاستراتيجي على طرق التجارة بين مصر وتركيا شمالاً والداخل السوري شرقاً، ولأنها تقع بين مدينتين كبيرتين هما صيدا وصور. وفي القرن السابع ق. م، الذي عُرف بفترة الحكم الآشوري للشاطئ اللبناني، تغيّر الحكم في هذه المنطقة، إذ تحولت من تبعية صيدا إلى تبعية صور.
وهي، مثل تل براك، تعدّ من المدن المحاوطة للمراكز الكبيرة التي عرفت فترات من الازدهار، وخاصةً أنه كان لها مرفآن. ولكن آثار هذه الفترة لا تزال دفينة وليست ظاهرةً إلّا القبور الصخريّة وخزانات المياه والآبار المنحوتة بالصّخر. وعند جنوب عدلون، بمحاذاة مشروع اللّيطاني، تقع مغارة «العليليّة» التي تضم بئراً منحوتةً في الصخر، وحفراً دائرية جميلة أمام ثلاثة قبور مطلّة على البحر. وفيها جلسة صخرية عبارة عن مقعدين متقابلين يُستعملان اليوم ملتقى للأحبّاء الذين يبحثون عن الرومنسية بين الآثار.
لا يزال تقليد عمره آلاف السنين قائماً اليوم في عدلون. إنه تقليد درّ الحليب للنساء المرضعات في مغارة أم البزاز التي تتميز ببابها الغربي الواسع المطلّ على البحر، وبفُتَح كبيرة في وسطها تشبه ثدي المرأة مقلوباً، مما أعطاها بعداً ميثولوجياً واعتقاداً شعبياً واسعاً. فأهالي المنطقة يتحدثون عن القدرة الشفائية التي خُصّت بها مياه هذه المغارة، وخاصةً بالنسبة إلى النّسوة المرضعات اللواتي يزرنها لغسل صدورهنّ بمياهها؛ وقد أطلق عليها الأهالي اسم مغارة «أمّ البزاز».