strong>حسين بن حمزةشاءت المصادفة أن يبصر النور في عام النكبة. لكن هذه المصادفة وجدت ترجمات عديدة لها في حياة الروائي الياس خوري، الذي حَظِيَ بسيرة فلسطينية تتفوّق على سيرته كلبناني. ابن الأشرفية المولود في عائلة متوسطة، تلقى تربية مشرقية جعلت وجود الإنجيل والقرآن في بيت أهله عادياً. كانت جدّته تحفظ الشعر الجاهلي وتقرأ بطرس البستاني وجرجي زيدان. «أنا ولدت في مناخ بقايا عصر النهضة»، يقول صاحب «الجبل الصغير» (1977)، متذكراً أنه قرأ أول منشور شيوعي على باب كنيسة الحيّ، وأنه كتب في قصته «رائحة الصابون» عن جنّاز أُقيم لستالين في الكنيسة نفسها. «كان الجو عروبياً وبولشفياً قبل أن تأتي الحرب وتتغير المنطقة».
التربية المتفتحة تزامنت مع كتابات مبكرة. في الـ 14 من عمره، بدأ ينظر إلى نفسه ككاتب. في المدرسة، انتبه إلى وجود طلاب فلسطينيين، وامتلك وعياً حاداً بالنكبة. تعرَّف إلى المطران جورج خضر، مؤسس حركة الشبيبة الأرثوذكسية المتأثرة بلاهوت التحرير القادم من ثورات أميركا اللاتينية، وجمعتهما صداقة لا تزال قائمة حتى اليوم.
حماسته للأجواء النضالية، أجَّلت فكرة الكاتب لديه. هكذا، وجد نفسه في حركة «فتح»، يجمع التبرعات ويشارك في التظاهرات. في كلية التربية، تعايش النضال مع الدراسة. بعد هزيمة حزيران، قرّر أن يكون فدائياً. ذهب إلى عمَّان، أوقف سيارة أجرة، وطلب من السائق أن يأخذه إلى الفدائيين! في مدينة السلط الجنوبية، أنزله السائق أمام أحد البيوت. طرق الباب، ففتح له «أبو جهاد»! خضع لدورات تدريب، وأُرسل إلى جنوب لبنان. بين القواعد الفلسطينية ومقاعد كلية التربية، أنهى دراسته في قسم التاريخ.
أكمل الدراسة في فرنسا، وعاد للعمل باحثاً سوسيولوجيّاً في «مركز الأبحاث الفلسطيني». هناك، بدأ يكتب مقالات أدبية في مجلة «شؤون فلسطينية»، ثم أشرف على الزاوية الثقافية فيها. حين ترأس محمود درويش المركز، صار خوري سكرتيراً لتحرير المجلة. في الأثناء، أصدر باكورته الروائية «عن علاقات الدائرة» (1975). المزاج النقدي المشاكس سبَّب له مشاكل كثيرة. وصلت الأمور إلى ذروتها مع نشره مقالاً لهادي العلوي أثار غضب جهات قيادية في منظمة التحرير. استقال درويش، وذهب خوري للعمل في جريدة «السفير»، لكن الثنائي التقى بعد سنتين لدى تأسيس مجلة «الكرمل». صداقة درويش، ولاحقاً إدوارد سعيد، ستصبح جزءاً جوهرياً في انتماء صاحب «الوجوه البيضاء» إلى الفضاء الفلسطيني الذي يميز فيه بين فلسطين كنضال من أجل إقامة دولة، وفلسطين كفكرة كونية ملهمة: «مشكلة القضية الفلسطينية اليوم أنها باتت بلا ضمير بعد رحيل سعيد ودرويش».
في هذا السياق، كان عادياً أن يتسرّب الفلسطيني إلى روايات الياس خوري، وأن يُتَوَّج ذلك بإنجازه «باب الشمس»، الرواية التي حازت جائزة فلسطين الكبرى، وتحولت إلى فيلم بتوقيع المخرج المصري يسري نصر الله. لكن هذا التسرّب، لم يحدث بسبب انخراط خوري في النضال. بالنسبة إليه، اللبناني مرئي داخل جغرافية بلاد الشام. هكذا، حضرت السورية «نورما» في «مجمع الأسرار» (1994)، و ابن بلدها «يالو» بطلاً لرواية حملت اسمه. في روايته الأخيرة «كأنها نائمة»، يتحرك اللبناني بالسهولة السردية نفسها بين بيروت وحلب والناصرة وطبريا. يعترف خوري بأن نبرته الروائية «ليست لبنانية بالكامل»: «أنا لست تلميذ المدرسة اللبنانية. في الشعر، أحببت السيّاب ودرويش وأدونيس. في الرواية، نجيب محفوظ وإميل حبيبي وغالب هلسا وغسان كنفاني، الذي كانت روايته «رجال في الشمس» ثاني خضة لوعيي بعد «غريب» ألبير كامو».
«الروائي والصحافي والمواطن»، هكذا وصفه الراحل سمير قصير ذات يوم. داخل هذا التوصيف تندرج الممارسات التي انخرط فيها صاحب «الوجوه البيضاء» (1981)، في محاولة إعادة وصل ما دمرته الحرب الأهلية. تجلى ذلك في تولّيه رئاسة تحرير «ملحق النهار الثقافي» الذي أقيل منه العام الماضي، وإدارته الفنية لـ «مسرح بيروت»، الذي أدّى دوراً حيوياً في أول سنوات الهدنة الأهليّة، قبل أن تأخذ التجربة مناحيَ أخرى. هناك شاهد الجمهور الطالع من سنوات الحرب، أفلام الموجة الجديدة في السينما السورية والفلسطينية والإيرانية، فضلاً عن عشرات المسرحيات وعروض الرقص اللبنانية والعربية والأجنبية... إضافةً إلى إحياء «مسرح بيروت» الذكرى الخمسين للنكبة في بيروت.
يخطر لنا أن الالتزام السياسي والنضالي حَرَفَ خوري عن المزاج التجريدي الذي حضر في لغة روايتيه الأولى والثالثة. هل كان مقدّراً له أن يحظى بكرونولوجيا روائية مختلفة؟ يقول إن ما حدث لمسيرته الروائية لا علاقة مباشرة له بنضاله السياسي، وإن المناخ التجريدي كان بدايةً طبيعية لروائي شاب يحاول العثور على نبرة وصوت سردي خاص: «في البداية، كان الواقع يتجلى من خلال مرايا سردية. تخطيت ذلك في «الجبل الصغير» وابتداءً من «مجمع الأسرار»، اهتديت إلى المعادلة التي سترافقني وتغتني من عمل إلى آخر».
ما يقوله الكاتب يتعزّز بكون أعماله تجاهلت سيرته الشخصية. لماذا؟ «لأن سيرتي الشخصية ليست مهمة». لكنها مليئة بالأحداث والمنعطفات؟ «كل كاتب لديه سيرة. الفارق أن يقتنع بأنها تستحق

ابن الأشرفية تلقّى تربية مشرقية، وقرأ أول منشور شيوعي على باب الكنيسة

احتلّ الموضوع الفلسطيني مكانة مهمّة في رواياته، بلغت ذروتها مع «باب الشمس»

الكتابة. أنا ببساطة لستُ مؤمناً بكتابة سيرتي». نسأله عن حركة «اليسار الديموقراطي»، والاصطفافات التي شقّت الجسم الثقافي اللبناني بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري. يعترف بأن التجربة فشلت، ويستدرك أن تحالف «اليسار الديموقراطي» مع 14 آذار لم يحدث لأسباب محض سياسية. «اغتيال سمير قصير كان اعتداءً على الثقافة والصحافة. ربما استعجلنا أنا وسمير وزياد ماجد الانضمام إلى طرف سياسي. المعادلة التي أردنا صوغها هي مقاومة الاحتلال والاستبداد في آن واحد. في حرب تموز 2006، انسحبنا من الحركة وأعلنّا فشلها. كانت التجربة دليلاً آخر على استحالة الاشتغال في السياسة اللبنانية من دون خطاب طائفي».
وسرعان ما يذهب إلى موقف دفاعي، ناقلاً الكرة إلى الملعب الآخر. بمهارة المناور الذي يختزل مسائل معقّدة في مقولات بسيطة وساذجة، يستغرب «اليساري التائه»، كما وصفه بعض الرفاق القدامى، انضمام «زملاء محسوبين على اليسار» إلى خندق المعارضة، فإذا بهم «يقاومون الاحتلال ويتجاهلون الاستبداد». ونتركه يمضي في تقديم تصوّره للخريطة السياسيّة اللبنانيّة: «هناك طرفان ينطلقان من النيوليبرالية، وهما متفقان على إدارة البلد بطريقة تحفظ استمرار نظام الزبائنية، بحيث يكون المواطن عبداً لطائفته ولا يفكر إلا في تأمين لقمة عيشه». نتركه إذاً يبحث عن الخيار الثالث.
حالياً، يضع خوري اللمسات الأخيرة على رواية تدور أحداثها بين بيروت وطرابلس. لا نُفاجَأ حين يقول إن بطليها فلسطينيان. يُخبرنا أنه بدأ العمل كرئيس تحرير مشارك في مجلة «دراسات فلسطينية». كأن الكاتب الذي عمل شاباً في «مركز الأبحاث الفلسطينية» يعود إلى المصادر الثرية لسيرته الفلسطينية التي لم تنقطع يوماًُ.
ماذا أيضاً؟ نسأله. يقول إنه حصل على منحة: «أنا ذاهب إلى برلين كي أكتب رواية جديدة». يبتسم قبل أن يُفاجئنا هذه المرة: «ستكون استكمالاً لـ «باب الشمس»».


5 تواريخ

1948
الولادة في بيروت

1975
صدور روايته الأولى «عن علاقات الدائرة». عمل سكرتير تحرير لمجلة «شؤون فلسطينية»

1983
ترأس القسم الثقافي في جريدة «السفير»، لمدّة سبع سنوات. ثم أشرف على «ملحق النهار» حتى إقالته العام الماضي

1998
صدور «باب الشمس» التي حازت «جائزة فلسطين الكبرى»، ونقلها يسري نصر الله إلى الشاشة بعد ست سنوات

2010
يضع اللمسات الأخيرة على رواية لم يختَرْ لها عنواناً، ويغادر قريباً إلى برلين ليكتب جزءاً ثانياً من «باب الشمس»