كامل جابر
بدت أكواز التين الشقراء التي جمعتها الحاجة أم علي من كرومها في عرمتى، أشبه بدرر ذهبية، تتدافع رؤوسها باتجاه الناظر لتلقي عليه سحراً، لا يحمل ميزته غير التين «العسلاني». تكاد قبضة اليد لا تكفي لتنغلق على ثلاثة أكواز من تينات أم علي. سلّتان كبيرتان كانتا حصيلة قطاف العصر.
هل تبيعين من هذا التين؟ كان ذلك هو السؤال الذي أعقبه رد سريع من أم علي: «لكنني، يا عمري، لا أحمل ميزاناً». وهل تيبّسين منه؟ ترد: «نعم عندي في البيت وعلى السطح». في صندوقة من كرتون، جمعت السيدة حتى الآن 14 كيلوغراماً من التين الجاف. «أتيت من بيروت، تركت عائلتي وأولادي وجئت من أجل مؤونة التين. نحن هجرتنا الحرب إلى بيروت، لم نعد تماماً، نزور ضيعتنا في العطل والمواسم، ولدينا كرم تين يؤمن حاجتنا من التين اليابس، ولا أبيع سوى ما هو فائض عن حاجتنا أنا وأبنائي».
تطلب السيدة مبلغ 25 ألف ليرة ثمناً لرطل التين. والرطل يبلغ كيلوغرامين ونصف كيلو «أنا أشمّس التين كوزاً كوزاً، وأنتقي الأكواز السليمة، غير المضروبة، لأجففها، يعني أتعب عليه، والذي يشتريه لن يحتاج إلى تجفيفه مجدداً أو إلى إزالة الشوائب منه»، تقول أم علي.
ولأن السيدة ليست تاجرة، فقد باعت الرطل في نهاية الأمر بعشرين ألف ليرة، «مع أن ثمن الرطل التجاري ليس أقل من 18 ألف ليرة، والجيد منه يباع بنحو ثلاثين ألف ليرة في بيروت، مع العلم أن بعض الكروم «انضربت» هذا الموسم بسبب الطقس الحار الذي حل على لبنان بين تموز وآب» كما تشرح.
تشتهر بلدة عرمتى بتينها الأبيض النظيف. كانت كرومه تنتشر بكثافة وكان المزارعون ينتظرون موسمه كما ينتظرون موسم الجوز، إلا أن سنوات الاحتلال دمّرت الكثير من مواسم القرى وخيراتها. فيوم احتلت إسرائيل لبنان وجنوبه عام 1982، نزح معظم أهالي عرمتى، وحتى من بقي منهم في البلدة لم يتمكن من الذهاب إلى الكروم، لمعاينتها وتشذيبها وريها وقطافها، كان ذلك ممنوعاً عليهم. أما الكروم التي تقع على التخوم، فقد احترقت كلها بسبب هذا الاحتلال. ربما صمد بعض الزيتون، لكن كروم التين يبست بمعظمها، وكذلك أشجار الجوز والإجاص والتفاح. بعد التحرير وعودة الأهالي، وجدوا كرومهم وقد غزتها نباتات العلّيق. حتى اليوم، لم يُعيدوا تأهيلها، وخصوصاً بعدما أضحى معظمها للورثة.
وفي معظم القرى الجنوبية، كان لقطاف التين طقوس ينتظرها الأهالي بفارغ الصبر، إذ كانوا يغادرون بيوتهم إلى كرومهم و»يتيّنون» فيها بما يشبه التخييم. ولأن الكروم كانت متراصة، فقد كانت أمسيات القطاف تنتهي بسهرات عامرة ومهرجانات من الدبكة الشعبية، وكان من البديهي أن يلي موسم «التتيين» فصل عامر من الزواج والمصاهرة.