أنسي الحاجما يريده الإنسان هو أن يُسْتَقبل. وبحفاوة ودفء. لا تُرْغمْه على كسر نفسه أو إنكارها كشرطٍ لقبوله، لأنّك بهذا محواً تمحوه وقتلاً تقتله. الضيافة الحقيقيّة هي الترحيب بالآخر لا على علّاته فحسب بل بشعور قلبيّ أنّه أفضل منّا.
في القرية اللبنانيّة كانوا يحفظون الصحن الأفخر والأطيب لغريبٍ قد يمرّ. وله أيضاً السرير الأفخم. بعضهم لا يزال عند هذا التقليد. الشعور حيال الغريب كما لو أنه طفلٌ جاء الآن إلى العالم ويحتاج إلى البشاشة وكلّ ما يغمره بالأمان.
نحن هو هذا الغريب. البسطاء الطيّبون يعطونه أحسن ما لديهم في البيت. البخلاء بخلاء. الذين يحسبون أنهم أحوج منه إلى الأخذ يظلّون على انتظار مَن يعطيهم. أمّا الموهوبون والمُلْهَمون وجريحو الوجدان فتقوم روائعهم الفنيّة والجماليّة والأخلاقيّة حيال غرباء الأرض مقام حياةٍ ـــــ أمّ، مقام أمّ الحياة، مقام مَن يُحبّك أكثر ممّا تحلم.
■ ■ ■
تُسبّح المزاميرُ الربّ متعجّبة كيف أن مَن خَلَق الكواكب والسماوات يتعطّف ويتذكّر الإنسان، وكيف أنّه تَكَرَّمَ وجعل مرتبته أقلّ قليلاً من مرتبة اللّه...
رحمَ اللهُ داود كان بارعاً في المديح. لكنّ اللّه لا يُصدّق الذين يجاملونه، بدليل تقريعه لأصحاب أيّوب الداعين إيّاه إلى الامتناع عن الشكوى. فأنين أيّوب كان في محلّه، ورفاقه كانوا مرائين. وما من نفاقٍ في الإيمان. ربّما يكون فيه حساب كما عند باسكال، وهو حساب الطفل المذعور، وإذا كان ينطوي على اجتهاد فليس فيه زَغَل.
قد يكون شكر المخلوق للخالق أضعف الإيمان ولكنْ من الطبيعي، كحدٍ أدنى، أن يسأل المخلوق خالقه: لماذا خلقتني إنْ كنتُ سأموت؟ وأن يُبْهَت إذا ظُلِم، وأنْ يُصْدَم ويثور لعذاب الأطفال ولنكبات الشعوب ولانكسار قلوب الصالحين، وأن يسأل اللّه كما سأله المسيح على الصليب: «إلهي! إلهي! لماذا تَرَكْتني!؟».
فما يمكن أن يُغضب الأقوى يمكن أن يدفعه ويشدّ حَقَويه لإضافة شيءٍ من الرحمةِ إنْ تَعَذَّرَ خلقُ المزيد من المجد.
■ ■ ■
تنطق حياة الحيوانات بفرح وجودها، لكن الإنسان يضيف إلى هذا الوفاء روائع خياله.
الحيوانات أعظم منّا في عدم هجاء الموت، لكنّها تموت، أو أننا نقنع أنفسنا بأنها تموت دون أن تدري، ولا نعرف، بل لا نريد أن نعرف كيف تشقى ولا كيف تستوحش، وربّما كانت معاناتها أقسى من معاناة البشر، لكنّنا لا نعرف... لذلك من حقّنا، بوحي نقاط ضعفنا وأنانيتنا المسكينة، أن نظنّ أننا وحدنا، دون سائر الكائنات، نموت خوفاً قبل أن نموت موتاً، ونموت توهُّماً وتخيّلاً قبل أن نموت تجمّداً، ونموت من المعرفة قبل أن نموت من الجهل، ونموت من الوحدة والملل، ومن الحبّ والبغض، ومن النبذ والعزل والحسد والمقارنة، ومن التعلُّق والبذل، ومن سقوط الحظوة، ومن الرقّة والشعور، ومن الجحود، ومن فراغ قلوبنا، قبل أن نموت...
ورغم هذا، يعطي الإنسانُ الوجود أكثر ممّا يعطيه الوجود!
قد يقابل آدمي آدميّاً بالسوء والشرّ، ولكنّه هو نفسه قد يطلع بنحت أبي الهول، وأعمدة بعلبك، وجداريّة اللّه يمدّ يده إلى الإنسان، وتأليف التوكاتا، والناي المسحور، والسمفونيا التاسعة، والملك لير، وأزهار الشرّ، وأفلام زفيريلّلي، وشعر إيلوار، وفولكلور بلاد الشام ومصر، وصوت فيروز...
تستبيح الأكثريّات والدول أطيافاً مستضعفة ومعزولة كالغجر والبدو، ويظلّ الغجر والبدو كالشجر المقتلع والدائم الاخضرار، يهيمون في الأرض متناقلين ابناً عن أب إرثَي التيه والحريّة.
يعطي الوجودُ الإنسانَ الحياة ليخطفها منه، ويعطي الإنسانُ الوجودَ حياةً لا نهاية لها!
الإنسانُ أكرم ممّا يسحقه. أنبل ممَّن يقهرونه. الإنسان أعظم من لعنته.
لا يؤنِسُ الوحيدَ أحد، والإنسان الوحيد يؤنس اللامبالين به. كيف يُحتمَل اللّيل لولا أصداء ما يعمر به الدماغ من فعل الجمال؟ وأيّ جمالٍ أجمل ممّا يبدعه الإنسان؟ عَرَف البشر فضلَ الطبيعة من منافعها الصارخة المباشرة، ولولا الشعراء والفنّانون لما تحسّسوا مكامن السحر ومعانيه ودلالاته فيها. الأجمل من وهج الشمس المادي وهجها المعنوي الذي صنعته لها الرموز والأساطير. هوى قمر الفلك من سرّه وبقي قمر الشعر على عرشه. الشجر نفسه ترقص روحه على إيقاع المفتتنين به أكثر ممّا تطرب للريح والمطر. الأرض عَدَمٌ أخضر لولا هذا الإنسان الجريح...
■ ■ ■
أيّوب على حطامه ظَلَّ يشكر. يونان لم ييأس وهو في بطن الحوت. إبراهيم أخذ ابنه إلى الذبح طائعاً. بودا سالَم بلا حدود. المسيح جعل موتَه تسبيحاً للحياة. الشهداء ابتساماتٌ تَمْسَح الدموع. الأدعية والنجاوى والألحان والأناشيد والأشعار والحكايات والفتوحات العقليّة تُبارك لاعنيها. الجدّة التي تروي القصص لأحفادها تُسامح القَدَر الذي بعد قليل سيواريها. كيف يُستطاع قطع خيط الحياة لكائناتٍ من هذا النوع؟
يجلس الإنسان على رصيفِ قَدَره هامّاً برفعِ قبضته، ويحار ضد مَنْ. أليس هو قاتل نفسه، قاتل أخيه وأخته وابنه وأبيه، قبل أن يكون قتيل أحد؟ وهل إذا تجاوز وضعه التاعس وخلَق جمالاً وفتنة يستحقّ الحياة الدائمة كالآلهة؟ وهل لأن البريء بريء يحقّ له أن ينمو ويخضرّ إلى الأبد؟
■ ■ ■
... وإذا بالإنسان نفسه، وقد جزع لصورةِ افتراضيّة عن ازدحام الأرض بالبشر وتكدّسهم بعضهم فوق بعض بلا نهاية، يوافق على الموت!
أصبح «موتهم» خلاصاً...
وما دام أن أحداً لا يُزلزل الدنيا لموتِ آخر، فهو يُقرّ بموته نفسه!
لا عن هزيمة أمام الموت فحسب بل عن ضيقِ صدر باستمرار حياة الآخرين...
أليس هذا هو سرّ الحلف الخفيّ بين الحياة والموت!؟
■ ■ ■
أنتَ لستَ الآخرين. أكذبُ جملةٍ كتبها شاعر العنتريّات الحديثة رمبو هي قوله «أنا هو آخر». حتّى إنّكَ لست ولا غريب الآخر. الغربة تجتذب، فيها مغناطيس الاكتشاف. لا، لستَ غريب الآخر بل أنت غير السائل عنه. اللامبالاة. اللامبالاة ضمانُ استمرار استسلامك لموت الآخرين. أمّا موتك أنتَ فمهما ملأتَ بصراخه السماء لن تخترق جدار لامبالاة الآخرين. اللامبالاة خالدة، وهي ضمانُ ذلك الميثاق بين الحياة والموت: كلاهما يضمن للآخر أنه، مهما حصل، لن يثور الأحياء ولن يكرّر أحد تجربة جلجامش اللاهث وراء عشبة الحياة الأبديّة ولا تجارب الخيميائيين عبر العصور بحثاً عن الحجر الفلسفي وعن تحويل المعادن الرخيصة والأطباع الرخيصة إلى ذهب ونور واكتشاف إكسير تجديد الصبا.
أنتَ تتقمّص الأموات لا الأحياء. تشاهد المنكوبين على الشاشة وتشعر معهم ولكنك لستَ أنت المنكوب. تسافر إليهم وتحمل لهم العون وتبقى أنت أنت وهم هم، ما يصيبهم يصيبك في إحساسك وأفكارك أمّا هم فيصيبهم من جذورهم إلى عيونهم. لا أحد هو الآخر. لا أحد يحبّ الآخر حتّى التدامُج. يندمج بصورة خياليّة للمعشوق، لكنّه لا يستحيله. الوحدة بمعنى الاتحاد والوحدة بمعنى العزلة واحدة في العربيّة. الاتحاد والانفراد واحد. سرّ التدفّق الهائج لنهر الحياة هو في عدم شعوره بما يتبخّر منه في الهواء، وفي جهله لحقيقة مصيره حين يصبّ في البحر. ما دام التدفّق متواصلاً فلا أهميّة للحوادث الطارئة. الحياة حركة والحركة إلهاء. الصالة لا تنطفئ إلّا بعد أن ينصرف الجمهور. إذا مات أحدٌ في مقعده وسط الظلام فهذا حادث. إنه واحدٌ وليس الجمهور. في اليوم التالي تُستأنف الحفلة وتعود الأضواء ويعود الجمهور وتحتفل الحياة بنفسها. «دعوا الموتى يدفنون موتاهم». لم أفهم هذه العبارة الإنجيليّة. قَسْوتُها تصعقني. اللامبالاة هنا تتجاوز تلك اللامبالاة. هل المعنى أن لا يعبأ بالميت حتّى ذووه، وإذا اهتمّوا فهم أيضاً أموات؟ أم هناك تفسير آخر؟ أم المسيح أيضاً يقصد أن لا أحد يموت مع الميت، وأن الذين يشيّعونه يتظاهرون بالحزن عليه، وأنّهم عاجزون ولو أرادوا عن إيفائه حاجته إلى التعاطف، وأنهم في صميمهم لامبالون به، وبالتالي موتى، موتى شعور؟
■ ■ ■
نحن وحدنا وأنت وحدك في قلب وحدة الآخرين. الرحيم فينا هو مَن يُلهينا. إنّها جدّتك بحكاياتها. إنّه الجسد الذي تشتهيه. إنّها بدائعُ الخَلْق الفنّي والأدبي التي تخطفك وتُعليك على ساحقيك. ليس هناك جواب عن سؤال العذاب. الثورات أيضاً إلهاء، دموي ولكنّه إلهاء. لم تستطع ثورة أن تعطي الأجوبة أو أن أجوبتها لا تشفي.
■ ■ ■
لا غرامَ ولا انتقام، بل بنْجٌ وخَدَر، ما يُبقينا في الحلم. الحياةُ معجزة تحتاج لاحتمالها إلى معجزات. اللّه الذي يخلقنا نخلقه، اللّه الذي يَجْبل من عدم ليس وحيداً في صنيعه، الإنسانُ يَجْبل أيضاً من عدم. لا من عدم فحسب، لا من هدوء العدم وسكونه وطواعيته، بل من أحشاء الألم ونزف القلب وتَشَظّي الكبد، ومن الخيانة والصقيع، ومن الفزع والهرب، ومن الفقر والجنون والفراغ والمرض. من الحياة التي هي موت، ومن الآخر، من شوقي للآخر الذي هو باب قبري.
فلتُسبّح المزامير متعجّبة. فلتسبّح أيضاً، فلتسبّح بمنتهى الانحناء للإنسان. إنّ روائعه تُشعشع في ظلام الكون بينما فاجعة قَدَره تُدوّي في المجهول الأخرس.