أنسي الحاجلا نريد أن نتعرّف إلى الجسد.
نحتاج إليه كي يهرّبنا قبل أن يقتلنا.
■ ■ ■
ما دام الحلم أجمل من الواقع فالواقع ناقص. الحلم لا الواقع هو القدوة. الفكرة لا الممارسة. ما دامت رؤيا مناميّة تمنح رائيها احتفالاً مالئاً مكتنزاً لا زيادة عليه فمعناه أن الواقع اليومي قابل لاستضافة مثل هذا الحلم.
بهذا المعنى، وبسواه، الحلم هو القدوة، لأنه هو أبو الواقع، ماضيه ومستقبله.
ما يحلمه الرجل في المرأة يجب أن تشبهه المرأة. وما تحلمه المرأة في الرجل، والطفل في الكبار، والكلب في صاحبه، والأزهار في سيّداتها، والصديق في صديقه. والمؤمن في إيمانه.
خذلان الحلم خيانة لليقظة. خيانة جبانة بشعة. يجب أن يبقى الحلم مستمرّاً في اليقظة حتّى ينخلط بها انخلاط الدم بالعروق. وإلّا، فإن أفضل وقاية للإنسان من كوابيس اليقظة هي أن يظلّ نائماً.
■ ■ ■
الجسد مدى مفتوح أمام الذهن، مدى محفوف بخطر الانتباه. ولصاحب الجسد، مهما كانت إرادته محدودة، مسؤولية عن إغلاق هذا المدى أو توسيع رقعته، وعن صدّ الذهن أو تحفيزه. وكما يقال عن الكبير إنه يكبّر عصره، يمكن القول عن الجسد في انعراضه على النظر إنه يكبّر الروح أو يصغّرها.
■ ■ ■
هذه الثنايا وامضة بالإشارات. هذه التدويرات ما كانت لتوجَد لولا أسلوب القماشة. هذا الحذاء تاجٌ للقَدَم. لكل وضعٍ تكون فيه المرأة، هوامشُ ومتون. ألعاب الخفّة تتبارى هنا، حيث الغربة بين الذَكَر والأنثى تداني المسافةَ بين المجرّات، فتوشك عروق التجاذب، عند حصول التجاذب، على الانفجار. أحرَقُ النيران جمرُ جليد البعاد.
لا نريد أن نتعرّف إلى الجسد بل أن يبهرنا بأسراره. نحتاج إلى ما يجعله يمرّ أمامنا كصورٍ بالغةِ الكمال في شريطٍ سينمائي بعيد المنال وفي قبضة الحواس وما بعدها أكثر من أي امتلاك. قليلاً ويسقط. ليله أطيب من نهاره. اجْهَلْه دوماً كما تجهل السماء والسراب والأجوبة. تَخيّلْه كما توحي لك ظلاله وغيومه وانظر إليه بعين الرضيع الذي فيك. خذ كلّ أمَلكَ وضَعْهُ في خيالاتك، خذ الحاضر وَضَعْهُ في الماضي، في المحال، ضعه في ظلال الغواية وخداع البصر، يكفي هذا الجسد فضلاً أنه قادر أن يكون باباً على الهذيان.
■ ■ ■
والجسد هو المرأة أوّلاً وأخيراً. إنّه عِلْمُها وسرُّها، حقيقتها وخدْعتها. دعوا النساء يتهامسنَ بخفايا مشاكلهنّ الواقعيّة ونواقصهنّ وشجون الصحّة وسائر الهموم «النثريّة»، وإيّاكم أن تسترقوا السمع إلى طقوسهنّ الخطرة هذه، تحت طائلة سقوط الهيكل. دعوا ما لقيصر لقيصر وما للوهم للوهم. دعوا ما للّه للّه وما للمرأة للمرأة. خُلقتْ الجدران من أجل الخيال. الواقع الراهن كان متخيّلاً، لكنّه جزء صغير من المتخيَّل: فلنساعد مخزونات الخيال على التحقّق أكثر فأكثر. فلنساعد بقوّة التصديق التي في الإيمان.
لم يغيّر الواقع إلّا الوهم. التاريخ صنعته الأوهام وعكسُ التاريخ وبَرَّاةُ التاريخ صنعتهما الأوهام. الحبّ أخطر الأمور لأنّه أكبر الأوهام. ليس هناك في الواقع أجمل من الوهم.
وأجمل ما فيه أن جذوره في الحقيقة.
■ ■ ■
الدافع إلى هذه الأفكار هو الإمعان في الهرب؟ طبعاً هو كذلك. كيف تواجه ما لا سلطة لك عليه بغير الهرب؟ كيف تنتصر بغير التجاهل؟ حكايةُ الحياة من بدايتها حكايةُ فرار، إنّها مرحلة انتقالية بين سقوطين: السقوط إلى المهد والسقوط إلى اللحد. صانعو الهَرَب رُسُل محبّة. بائعو الأحلام ملائكة رحمة. الذي يعطيك سحراً يعطيك معجزة. انظر إلى الصبايا يخطرنَ في الطريق، الأرضُ تحت أحذيتهنّ قاعةُ رَقْص، صحراء تتحوّل فجأةً إلى قصر مسحور.
لا تتوقّف. اهربْ دوماً...
■ ■ ■
لتلتهمْكَ الصُوَر. اغمضْ عينيكَ واذهبْ.
لا شيء كهذا يستحقّ الاستسلام.

خلاصة
إلى حين، كنت ممَّن يعتقدون بحتميّة «الحبّ المتبادل»، وأنّ من المستحيل أن يشعر المرء بانجذابٍ نحو شخصٍ لن يبادله مثل شعوره.
يتّضح من الوقائع أن مصدر اعتقادٍ كهذا هو الإسقاط، وإنزال النتيجة محلّ السبب، والتلاعب على الذات.
لو كان الحبّ المتبادل حقيقة لكان جميع الرجال سيتبادلون «الحبّ» مع جميع النساء اللواتي يعجبنهم، والعكس، في دوّامةٍ كونيّة من التجاسد اللانهائي.
هناك عرض وهناك طلب. حاجةٌ وتلبيتها. وحتّى هنا، غالباً ما يكون التفاوت سيّد الموقف بين الحاجة والتلبية، وبين العرض والطلب. ولا ينكشف مدى مرارة هذا التفاوت إلّا عندما تتعاظم الحاجة لدى شخص إلى شخص آخر (أو «الحاجة» في المطلق) ولا يلقى إجابة. تكمن في هذه الغربة خلاصةُ الوحشة الإنسانيّة بكامل عريها.


الشكر والتمنّي
أشكر اللّه أنّي لم أعرف شخصياً أبطالي المفضّلين: باردايان، نوستراداموس (نوستراداموس ميشال زيفاكو)، الكونت دو مونتيكريستو، شهرزاد، سوبرمان...
أشكر اللّه أنّي لم أبعث إلى أندريه بروتون عام 1958 بتلك الرسالة التي ما زلتُ أحتفظ بها. أشكر اللّه أنّه لم يقيَّض لي التعرُّف شخصيّاً على إيلوار وأراغون، وأنّي اكتفيتُ من معرفتي بجاك بريفير وجورج شحادة ويونيسكو بالقدر الذي حفظهم في ذاكرتي عند وهجهم. أشكر اللّه أنّي لم أعرف بودلير إلّا من البُعد الساخن، من المسافة التي، مهما أعدتُ قراءته، لن تُردَم.
هناك أشخاص لا يهمّ أعَرَفْتَهم عن كثب أم لم تعرفهم. أبو تمّام والبحتري، مثلاً. ناصيف اليازجي. فكتور هوغو. طه حسين وتوفيق الحكيم. ليس لأنْ لا فَرق بين كتابتهم وشخصهم بل لأنّ لا كتابتهم أسطورة ولا شخصهم، بل هما ما تتوقّعه. حتّى الأبيات أو المقاطع الرائعة، عند هوغو مثلاً، تكاد دوماً تأتي في محلّها، شاطرة خلّابة، لكنّها ليست من نوع الصاعقة المستمرّة، كما عند بودلير أو المتنبّي.
تمنّيتُ لو عرفتُ أمّي أكثر.
تمنّيتُ لو لم أعرف أحداً ممَّن كانت معرفتي بهم وبالاً عليهم.
تمنّيتُ لو احتفظتُ من عهدي السابق بفضيلة الخجل المانع لإظهار العواطف. كان ذلك ألْيَق وأجدى.
تمنّيتُ لو لم أكتب إلّا عن الآخرين، لو لم أكتب كلمة عن نفسي. ليس مثل الأغنية ما يحتمل الأنا، وليس مثل الورق ما يحترق بها.
تمنّيتُ لو كان مساء العمر صافي المساء فلا يخالطه فُتات صبا، كاحتضارٍ معاند ترفضه الحياة ويرفضه الموت.
وأشكر اللّه أنّي ما عرفتُ نفسي في البداية كما أعرفها الآن، فقد أعانني ذلك كثيراً على مواصلة السير فوق حافّة الهاوية وأنا نائم.


عابرات

على عبارة «المرأة الولد» (التي أوحت الكثير من شعر القرن العشرين وقصصه والتي كانت الممثّلة بريجيت باردو أحد تجسيداتها في السينما) أفضّلُ عبارة «الولد المرأة». الأولى توحي الغباء والثانية قد توحي الرذيلة المبكرة.
■ ■ ■
زخم العطاء عند هذا الرجل جعله، بعد خلقه أعماله وأشخاصه، يَخْلق أيضاً أعداءه!
■ ■ ■
يستطيع العاشق أن يواصل تخييله لمعشوقه رغم اصطدامه بعيوبه، شرط أن يكون خياله مثل العين التي تنسحر بهطول المطر لا مثل العين التي لا يذكّرها المطر إلّا بكونه يُنتج الوحول.
■ ■ ■
حبّذا الوجد بدون شروط التصوّف الديني، حيث يغدو العالم الخارجي هو نفسه العالم الداخلي، والرخيص نادراً والنادر موفوراً بنعمةِ مُنْعِم.
وجدٌ هو، كما يقول التهاوني، «عجز الروح عن احتمال غلبة الشوق عند وجود حلاوة الفكرة».
■ ■ ■
أَفْضَلُ أن يرحل المرء دون كلام من أن يرحل على انطباع بأنه لم يعرف أن يتكلّم.
■ ■ ■
للشفّاف باطنيّة البركان وللمُعْتِم شفافيّة الصبر.