على أبواب المئة وعامين، عايش جورج حنا فتوح جميع الحروب اللبنانية، ولمس التغيّرات الاجتماعيّة والحياتيّة التي غيّرت المشهد اللّبنانيّ، هو «جدّو جرجي» من بلدة المنصف الجبيليّة والمشهور بأناقته وبروحه المرحة
المنصف ــ جوانّا عازار
على شرفة منزله في بلدة المنصف المطلّة على البحر، جلس «جدو جرجي» على كرسيّ متصفحاً جريدة اليوم «أقرأها من الجلدة للجلدة دون أن أستعمل النظّارات» يقول ضاحكاً، ويضيف «الأخبار كثيرة هذه الأيّام ومنها ليس سوى طقّ حنك». بأناقته المعهودة يستقبل زائريه، هو الذي يستيقظ بين الساعة الرابعة والخامسة فجراً، يبدأ نهاره السادسة صباحاً بفنجان قهوة، يجد بعدها متّسعاً من الوقت خلال النهار للقراءة، لمتابعة الأخبار الرياضيّة التلفزيونيّة للألعاب التي يهواها، وخصوصاً الملاكمة، كرة المضرب، البلياردو والمصارعة الحرّة: «بضلّ لآخر المباراة وبحمّس اللّعب الحلو» يقول مبتهجاً.
أمّا «الهيصة» الكبيرة فهي على الغداء «كلّ يوم كاس عالضهر» يقول ويضيف «ما بكفّي كاس واحد، بالقليلة بضرب كاسين!». وهل ينتبه إلى نوع الطعام الذي يتناوله؟ يقول «السمك يوم ايه يوم لاء، بآكل حبوب وخضرا، ما عندي شي مرّ ع ضرسي، والحفلة الكبيرة كلّ يوم أحد، كبّة نيّة ولحمة وقصبة نيّة»، مردفاً بمرح «بعدني شابّ». ويستفيض في الشرح «كنت أمشي كثيراً ولا أزال وإن بنسبة أخفّ، وأعشق الصيد البحريّ وبعدني ناوي روح ع البحر، بدّي اتصيّد سمك الاراعيش بيكون صار الطقس برود بموسم الاراعيش». جرجي الذي عمل في الأرض لفترات طويلة يقول «للسنة الماضية كنت لا أزال أقوم بتشحيل الشجر ونكش الأرض، كان بعدني قبضاي مييّ بالمييّ»، والآن؟ تسأله ممازحاً، فيجيب «تقريباً، الحمد للّه» ثم تشع ابتسامته.
تبقى الحزّة الكبيرة في قلبه مقتل ابنته سلام برصاص طائش في بيروت عام 1988
تسأل الرجل المتربع على قمة سنواته المئة عن أبشع ما مرّ عليه، فيجيب بلا تردد «الحرب، أكيد أبشع شي»، ويكمل بمرارة مفاجئة مقارنة بمرحه في البداية «عايشت معظم الحروب التي مرّت علينا 1914، 1918، 1948، 1967، 1975، 1989 وحرب تمّوز الأخيرة، هذا ما أذكره. للأسف أكلت الحرب الكثير من أيّامي وهجّرت الكثيرين وقتلت مئات الآلاف». وماذا عن أول حرب عاشها؟ يجيب بسؤال: «حرب الأربعتعش؟ (يقصد الحرب العالمية الأولى) كان عمري حينها خمس سنوات، كنّا نجوع، كثيراً، هذا ما أذكره»، ويضيف مستعيداً ذاكرة ذاك الجيل عن المحتل العثملي «الحالة كانت تعتير وين ما كان، حدا بيقلّك أتراك؟ خفنا كثير لكننا قاومنا وصبرنا ونجحنا في البقاء». في هذه الأيّام، كان جرجي يتلقّى دروسه في بلدة المنصف على يد عدد من الأساتذة من البلدة، قبل أن ينتقل في الحرب العالمية الأولى إلى إرساليّة أميركيّة للبروتستانت لإكمال دروسه في جونيه، ثمّ غزير وبعدهما بلدة الميّه وميّه. «أتذكّر القليل من هذه الفترة، لكنّني أقرّ بأنّ الوضع كان سيّئاً بالنسبة لكثير من اللّبنانييّن ونحن منهم». في 13 سنة، عاد جرجي مجدّداً إلى بلدته المنصف حيث أكمل دراسته. «في هذه الفترة، عملت بالفاعل في الحقل، كنّا نذهب سيراً على الأقدام من المنصف الى جدّايل، غرزوز، البرباره وغيرها، كنت أعرف هذه البلدات جيّداً، وخصوصاً أنّ والدتي (مرتا عازار) هي من بلدة جدّايل. كانت الأيّام في تلك الفترة مباركة وإلى جانب العمل في الحقل وتشحيل أشجار الزيتون، كنت أمارس الصنعات التي تعلّمتها من الإرساليّة الأميركيّة كالسكافة والتنجيد»، في هذه الفترة «ما كان في لا تلفون ولا سيّارات ولا من يحزنون، بس كنّا مبسوطين»، يشرد كمن يتذكر شيئاً بعيداً «كانت الناس تحبّ بعضها أكتر من اليوم، هالايّام صاروا الناس متعلّمين كلّن، وكلّن بيسمّوا حالن خواجات، ما حدا بيتقبّل التاني». جرجي الذي تزوّج عام 1938 من لوريس غصن من بلدة المنصف يتحدّث عن تلك الأيّام بكثير من الحماسة «صدّقوني كانت أيّام حلوة، كنّا نروح كلنا عالسهريّات، نلعب ورق، ندبك ونغنّي ونتسلّى، كان في عاطفة وعاطفة قوية كتير بين الناس والأهل والقرايب وولاد الضيع».
أقامت له عائلته حفلاً كبيراً بمناسبة عيده المئة منذ سنتين
عام 1947 خضع جرجي لامتحان حصل فيه على درجة ممتازة، ولقد أصبح على أثر ذلك موظّفاً في الدولة اللّبنانيّة. بدأ مسيرته الوظيفيّة بقرار وزاري في وزارة الزراعة (التي بقي فيها حتّى عام 1956) فانتقل للسكن في منطقة رأس بيروت، قبل أن ينتقل في وظيفته إلى قسم الميكانيك في الدكوانة بمرسوم جمهوريّ. يقول متنهداً وكانه يتذكر شيئاً قديماً جداً: «مرق عليّ تعب بالماضي، كتير تعبت. لكنني، بتعويض نهاية الخدمة الذي قبضته، كبّرت بيت العائلة في المنصف (يقصد منطقة المنصف في ساحل جبيل)». كبرت العائلة المؤلفة من خمس فتيات: إلهام، هيام، ابتسام، ليلى وسلام وشابّ وحيد اسمه فؤاد. ولجرجي أيضاً ثلاثة أحفاد لهم بدورهم خمسة أولاد، وهو ممنون لأنه كحّل عيونه برؤية هؤلاء الأحفاد. لكن تبقى المرارة في قلبه وغصة حياته أو ما يصفه بأنه «الحزّة الكبيرة»، مقتل ابنته سلام برصاص طائش في اشتباكات خلال الحرب الأهلية في بيروت عام 1988. «خسرناها. يقول، كانت موظّفة بالبنك» يتذكر بأسى، ويضيف «لم أتعاط السياسة يوماً ولم أتحزّب لأيّ زعيم أو حزب، لا تهمّني السياسة مطلقاً بمعناها الضيّق، كلّها متداخلة وللسياسيّين قواعد في اللعبة نجهلها جميعنا».
يقوّم جرجي رصيده بعد هذا العمر الطويل «الحمد الله محبوب من الجميع» يقول شارحاً «لم أهدر أبداً حقّ أيّ شخص ولم أضرّ أحداً عن قصد أو غير قصد، ولا أزال حتّى اليوم أقوم بالواجبات الضروريّة مع أبناء البلدة وأطمئنّ عليهم يوم الأحد في الكنيسة، ومن جهتي أشعر بحبّهم وتقديرهم». يخبر جدو جرجي بشغف عن الحفل الكبير الذي أقامته له عائلته بمشاركة الأقرباء بمناسبة عيده المئة «عملولي حفلة كبيري كتير بالاوتيل، اجوا كلّن. رقصنا وفرحنا كتير». يردّد بيتاً من القصيدة التي نظمها بالمناسبة ابن أخيه نفحة فتّوح في 6 كانون الثاني 2009 «رقصت حجار الدار وارتفعوا العتاب، وتجمهروا الأحباب حولك يا أمير، والثلج غطّى الأرض والبير انتلا، والخير يدفق عالكبير وعالصغير، وطلّيت ع هالكون من ميّة سني، وجيت عالدني بعمادة الفادي البشير»، والآن بعدما انتهى مفعول عقبال المئة عام ماذا نقول لك؟ «بعد بتمنّى أمنية وحدي وهييّ انّو زوّج ابني الوحيد فؤاد، أنا صرت كلني قطع تبديل وعايش الحمد الله» يقول جرجي وعيناه الزرقاوان تشعّان نوراً وحياة.


هوايات جدو جرجي

«كنت أمشي كثيراً ولا أزال وإن بنسبة أخفّ، أعشق الصيد البحريّ وبعدني ناوي اتصيّد سمك الاراعيش بيكون صار الطقس برود بموسمه». جرجي الذي عمل في الأرض يقول «للسني الماضيي كان بعدني بشحّل وأنكش الأرض، كان بعدني قبضايّ»، والآن؟ تسأله ممازحاً. فيجيب «تقريباً، الحمد للّه» ثم تشع ابتسامته.