مصطفى بسيونيرحلة طويلة في الدبلوماسية المصرية امتدت أربعة عقود عاصر فيها إبراهيم يسري ثلاثة عهود، تحوّلت فيها وجهة السياسة المصرية الخارجية وأولوياتها. وعاد من رحلته الدبلوماسية ليستأنف ما بدأه باكراً. كان لا يزال على مقاعد الدراسة، حين بدأ إبراهيم يسري عمله الوطني ضد الاحتلال الإنكليزي. عندما يتحدث عن تلك الفترة، يقارنها بالأوضاع الحالية قائلاً «رغم الاستعمار والملكية، كان هناك مناخ حرية أفضل من الآن. كنت في الثانوية حين صدرت جريدة «الجهاد». صدرت منها ثلاثة أعداد، ولم تصادَر رغم أنّها كانت تهاجم الاحتلال، وصراع الأحزاب وتنتقد الأوضاع بحدّة. كنا أيضاً نتظاهر ونعتصم. وأذكر أنّنا اعتصمنا ثلاثة أيام ضد رئيس الديوان الملكي حافظ عفيفي».
التحاقه بالدبلوماسية المصرية كان عام 1957 أي في ذروة المد القومي ومواجهة الاستعمار. كانت الدبلوماسية المصرية حينها خط مواجهة متقدّماً مع الاستعمار والصهيونية، ولم تكن مجرد مؤسسة بروتوكولات وتشريفات. كمعظم أبناء جيله، بهرته الإنجازات التي كانت تتحقّق في المجالات المختلفة في ذلك الوقت، وانحيازات النظام الناصري الوطنية والاجتماعية والمشاريع الضخمة التي تبنّاها: «دخلنا عهداً جديداً، وأيّدنا عبد الناصر. لكن بعد رحيله، اكتشفنا النقص في النظام الناصري، وغياب الديموقراطية والتعددية، وهو ما سهّل الانقلاب على الثورة وتحويل وجهة النظام». ربما كانت الخارجية المصرية الأكثر إحساساً بالتحول الذي جرى في عهد السادات. أعداء الأمس تحوّلوا فجأةً إلى أصدقاء ثم حلفاء، والأصدقاء تحوّلوا إلى خصوم. صدمة التحوّل تلك تركت أثرها في يسري، ودفعته إلى تقديم استقالته. يقول عن تلك الفترة «لم نكن سعداء بما يقوم به السادات في الوزارة. كنت في الهند لدى زيارة السادات إلى إسرائيل، وتقدّمت ساعتها باستقالتي إلى السفير حسام عامر. لكنه رفضها، وناقشني وطلب مني أن أقول رأيي من الداخل. بعدها، عدت إلى القاهرة فوجدت ترتيبات كامب ديفيد واتفاقية السلام مع إسرائيل، والإدارة القانونية كانت تعمل بها، فابتعدت عنها ولم أشارك. مؤسسة الرئاسة كانت تستحوذ على القرار، ووزير الخارجية لم يكن سوى مستشار». في ذلك الوقت، شهدت وزارة الخارجية استقالة ثلاثة وزراء بالتتابع احتجاجاً على السياسات الجديدة للسادات.
بعد ذلك، استمر إبراهيم يسري في الدبلوماسية حتى عام 1995، يقاوم بما تيسّر له في ظل سياسة استقرت بالفعل على توجّهها. لكن الرجل لم يستسلم: «لم نكن نعرف هوية مبارك وتوجهاته في البداية، لكنّها اتضحت بعد ذلك. وجودي في الإدارة القانونية جعلني أستطيع رفض العديد من الأمور مثل مرور السفن النووية الأميركية، وبعض الاتفاقيات التي تمس بالسيادة. وأذكر مثلاً أنني أثناء مؤتمر مدريد، كنت سفيراً في الجزائر وجاءتني برقية تطلب تدخلي لدى الجزائر كي تساعد على الإعداد للمؤتمر، فأرسلت ردّاً يحذّر من هذا الاتجاه ومخاطره».
خدمته لأربعة عقود في أروقة الدبلوماسية، ومعايشته ثلاثة عهود، لم تصبغاه بتلك الطبيعة المتكلّفة لأقرانه. الرجل ما زال يتمتّع ببساطة، وحفاوة طبيعية، ومباشرة، ووضوح. يتحدث اليوم عن الدور المصري وما آل إليه. يتخلّى عن عبارات الدبلوماسية اللزجة والمتردّدة، ويقول مباشرةً «السياسة الخارجية المصرية أصبحت في خبر كان. أصبحنا جمهورية موز بعدما كان لنا وزن خاص. علاقتنا بأفريقيا تدهورت بعد إهمال عشرين عاماً. بل أصبحت أفريقيا منفى للسفراء الذين لا يتمتعون بالواسطة. وأصحاب الواسطة يتنقّلون بين أميركا وأوروبا».
بعد نهاية خدمته في الخارجية، أعلن المواجهة مع التطبيع والمطبّعين، وخاض معركة مع «جمعية القاهرة للسلام» التي ضمت نخبة من دعاة التطبيع، واستضافت شيمون بيريز ليشرح رؤيته للسلام. يومها، رفع يسري دعوى قضائية لمنع إشهار هذه الجمعية، فاختفت بعدها. واستمر الرجل في ملاحقة التطبيع، فوقف ضد تصدير الغاز إلى إسرائيل وبناء الجدار الفولاذي وغيرهما...
السياسي المحنّك كان يدرك دوماً تلك العلاقة بين السياسة الخارجية والداخلية، بين التطبيع والاستبداد. لذا كان في مقدمة الصفوف المطالبة بالديموقراطية، والإصلاح السياسي ومواجهة الفساد. لا يمكن وقف سياسات التطبيع وتغيير السياسة الخارجية إلا عندما يكون الشعب صاحب القرار «أنا واثق بأنّ مستقبل مصر سيكون مبهراً حين يتسلّم الشعب مقدّراته وأرى ذلك قريباً».
نضاله على مستوى السياسة الداخلية، ومواجهة الاستبداد والفساد، لم يكن أيسر من نضاله الدبلوماسي. الأوضاع التي تكلّست عبر ثلاثة عقود تقاوم بشدة كل محاولة للتغيير «الديموقراطية في الداخل وهم. يجب أن تصعد المعارضة من أساليب نضالها عبر الإضرابات والتظاهرات الدائمة. المجتمع يتقيّح ويتعفّن. وبعد خمس سنوات، لن نجد مصر أصلاً. المجتمع ينحدر بسرعة رهيبة، والدولة مكرّسة لأصحاب الثروات. ولا سبيل لتبديل هذا الوضع سوى بتحرّر الشعب وامتلاك قراره بيده».
مسيرة إبراهيم في السياسة الخارجية كانت حافلة بالأزمات الدائمة. في كل الدول التي خدم فيها، كانت هناك أزمة «خدمت في العراق في عهد عبد الكريم قاسم، وفي رومانيا في عهد تشاوشيسكو وعلاقات رومانيا بإسرائيل، وفي الجزائر أثناء أزمة سبّبتها مباراة كرة قدم مشابهة للأزمة الأخيرة». لدى عودته من رحلة الدبلوماسية، كانت أزمات جديدة تنتظره. ديكتاتورية تتشبّث بالحكم، وفساد وصل إلى كل مستويات السلطة، وسياسات دفعت بـ 40 في المئة من السكان تحت خط الفقر. وبالدأب نفسه، يدفع الرجل نفسه إلى داخل الأزمات متخلّياً عن تردد الدبلوماسية ومستجيباً لنبض الشعب. لن تستطيع مصادفة واحد مثله في المحافل الدبلوماسية، حيث الوجاهة والفخامة والحسابات المعقّدة والتوازنات الدقيقة. لدى إبراهيم، ستصادف شيئاً آخر غريباً على الدبلوماسية. هذا الشيء جعل مكانه الطبيعي بين المناضلين ضد التطبيع وضد الاستبداد. وبعد أكثر من نصف قرن، ستعثر بسهولة في ذلك الشيخ الجالس بهدوء، على ذلك الفتى الذي أصدر يوماً جريدة «الجهاد» واعتصم ضد حافظ عفيفي.


5 تواريخ

1935
الولادة في محافظة الشرقية في مصر

1959
تخرّج في كلية الحقوق في «جامعة عين شمس»، وبعد عامين حاز ماجستير في العلوم السياسية

1975
التحق بالعمل في الخارجية المصرية وبعدئذ بثماني سنوات عُيّن سفيراً في مدغشقر

2008
رفع دعوى قضائية ضد تصدير الغاز إلى إسرائيل

2010
رفع قضيّة ضد الجدار الفولاذي ويواصل نشاطه في حركات المطالبة بالتغيير والإصلاح