بعد 32 عاماً، عادت يولاند ريميرسا إلى لبنان للبحث عن أمها الحقيقية. أتت وفي يدها حقيبة صغيرة تحمل فيها وثيقة ميلاد وشهادة تخلية وخريطة وصوراً لها وبضعة أسماء لأشخاصٍ قد يسهمون في رؤية أم تركتها بملء إرادتها خوفاً من العار
راجانا حمية
في 24 حزيران عام 1978، وُلدت طفلة في أحد مستشفيات مدينة بيروت، أو في أحد بيوتها. لا أهمية للمكان. فلا أحد منّا يأبه لمكان لا يُذكر إلا في وثيقة ولادة. مكان لم يكبر فيه ولم يحلم. لكن، لتلك الصغيرة التي أبصرت النور قبل 32 عاماً علاقة أخرى به. يصعب على أيٍّ كان فهمها. هل هي تعلّق ببقعة تنفّست فيها أوّل أنفاسها وانسلخت عنها رغماً عنها؟ أم هي بداية لنسج حياة كان يمكن أن تكون هنا؟
وحدها تعرف الإجابة. لكن، هكذا بدأت قصتها المفتوحة فصولها إلى الآن: في صباح ذاك اليوم من حزيران، أصاب الطلق أماً. كان يوماً بشعاً من أيام الحرب، وكانت الأم وحيدة. لا أحد يأبه لآلامها المضاعفة. لا عائلة ولا زوج... كان سيصبح أباً لطفلة ستولد بعد حين. كانت إلى جانبها «داية» فقط، اسمها محبوبة صايغ. هذا ما كُتب على وثيقة الولادة الباقية في يد «الطفلة» بعد كل تلك السنوات. كان المخاض عسيراً، إذ يُعرف عن محبوبة أنها لحالات الولادة العسيرة، تقول سوسن العود إحدى الممرضات في جمعية العناية بالأم والطفل، وهي تتذكر ملامح «الداية» الآتية من الحسكة السورية للعمل.
كانت ولادة صعبة، خرجت بعدها الصغيرة بصحة جيدة من رحم أمها. تنفّست أوّل أنفاسها بين أحضانها. وكانت النهاية بينهما. افترقتا. اختارت الأم حياة أخرى من دون ابنة، خوفاً ممّا يسمونه عاراً. كان عليها التخلّص منها، مقابل إرضاء حفنة من البشر. وهكذا كان. أعطت الأم موافقتها في 27 تشرين الأول من عام الولادة نفسه على التخلّي عن ابنتها. يومها، كتبت صايغ، القابلة القانونية، شهادة تخلية تصرّح فيها بأن «طفلة أنثى من دون والد شرعي قد ولدت في بيروت، وأن الوالدة قد تخلّت عن الطفلة المولودة منها بملء إرادتها، وقد أطلق على الطفلة اسم ماريان، وإني أفيد بأنني قد أعطيتها إلى السيد بيرند ريميرسا وقرينته، وهما من التابعية الهولندية».
فات الصغيرة أن تعيش في كنف عائلة ولدت من رحمها. والوالدة تركتها بملء إرادتها. وربما بعد كل تلك السنوات، حملت تلك الأم بأطفال كثر. وقد تكون احتفظت بهم، أحبّتهم، سهرت لمرضهم. والحجة، أنهم شرعيون. أما ماريان، فثمرة خطيئة.
نسيت الأم. كبُرت الطفلة. بات اسمها يولاند ريميرسا... وباتت أماً لخمس بنات، وتعيش في أمستردام. يفصلها عن مكان ولادتها آلاف الكيلومترات، ومع ذلك لم تنسَ أنّ لها مكاناً وأماً. عادت وفي جعبتها وثيقة ولادة وشهادة تخلية وخريطة وصور لها ولـ«عدلا»، السيدة التي أعطتها للعائلة الهولندية. ثمة ما يدفعها إلى هذه العودة. وهي أسئلة بناتها. ففي إحدى المرات سألتها طفلتها، وهي تشير بإصبعها الصغيرة إلى بطن يولاند المنتفخ من الحمل: «ماما إنت جيتي من هون؟ ماما كيف إنت سمرا وكل العيلة شقرا؟».
لهذه الأسباب، انطلقت في مشوارها إلى الأمكنة والأسماء المسجلة في وثيقة الميلاد اللبنانية.
من بيت المختار جرجي ربيز بدأ المشوار. قضت وقتها الفاصل بين المكان الذي انطلقت منه ومكتب المختار تتأمل طريقها. تارة تتكلم وطوراً تتأمل الأبنية حولها، كأنها تعبّئ ذاكرتها بصور من البلد الذي وُلدت فيه. 5 دقائق، تتوقف السيارة أمام مكتب المختار في رأس بيروت. تترجّل يولاند منها، وفي يدها أوراقها. تصعد سلالم المكتب. تقرع جرس الباب. لا مجيب. يدخل خلفها بائع عبوات المياه قائلاً: «إذا عم تسألوا عن المختار فهو متوفّّىً من زمان وابنه كمان». يضيف: «اسألوا أصحاب البيت فوق المكتب». تصعد إلى بيت «العم غريغوار وزوجته فلورانس». تسأل عن المختار، فيقول لها العم الفرنسي: «أوه، توفي منذ فترة». يسألها عمّا كانت تريده، فتسحب أوراقها وتسرد قصتها. ثمة أمر لفت الرجل غير تلك المعلومات التي تكررها. ففي الورقة، سُجّلت يولاند على أنها من الطائفة الإنجيلية. بدأت التحليلات وبدأت قصة جديدة معها. تقول يولاند إنها من الطائفة الإنجيلية. منذ متى؟ تقول إن «عدلا سجلتها كذلك، لأن والدتها كانت كذلك». إذاً، الأم قابلت عدلا، لكنّ الأخيرة ترفض الاعتراف بذلك. معلومة أولى لا يعوّل عليها كثيرون، ولكنها الخيط الرفيع الذي تبحث عنه يولاند. يدلّها العم غريغوار إلى «الأب جرمانوس، فمن الممكن أن يعرف من كان قسيساً في تلك الفترة».
إلى الأب جرمانوس. هو ليس موجوداً الآن، ولكن «إن كنت تبحثين عن كنيسة الإنجيليين، فبإمكانك أن تسألي في كلية اللاهوت للشرق الأدنى»، يقول العامل في الكنيسة. تصل الشابة إلى كلية اللاهوت يحدوها الأمل أن تجد في أحد السجلات دليلاً ما. لا جديد هنا أيضاً. تخرج من الباب، فتغرورق عيناها بالدمع. تخرج بجعبة فارغة.
الوجهة ضائعة الآن. يسأل الشباب: إلى كنيسة أخرى؟ إلى البحر؟ يتدخّل أحدهم: إلى عائشة بكار، حيث كانت تقيم القابلة القانونية.
إلى عائشة بكار إذاً. في الطريق، يسأل السائق: «في مكان محدد؟»، فتجيبه الشابة المرافقة: «بدنا نفتّش عن محبوبة». يصمت هنيهة ثم يقول: «خلص لقيتها. رح باخدكم على جمعية العناية، وهي مستشفى للتوليد من سنة الستين موجود. معقول تكون ولدتها هونيك». تنفرج الأسارير. يولاند لا تفهم العربية. فقط تنظر إلى الوجوه المبتسمة، فتبتسم. تشرح لها الشابة ما يجري، فتكبر ابتسامتها، ومعها الأمل. هذه المرة، تفضّل يولاند البقاء في السيارة بانتظار الخبر الذي ستأتي به الشابة إليها. تصعد الشابة إلى المبنى. تسأل إحدى العاملات هناك سوسن العود عن اسم «محبوبة صايغ». تتذكر العود الاسم جيداً، فتبادر قائلة: «اشتغلت هنا في المستشفى في السبعينيات، وكانت تسكن مقابل المستشفى، ومن ثم هربت إلى جونية، ويقولون إنها سافرت إلى أوستراليا». تسأل الشابة عمّا إذا كان في المستطاع الاطلاع على السجلات العائدة إلى عام 1978، لكن «لا مجال لذلك، فهنا نحتفظ بالسجلات لعشر سنوات لورا، ومن المستحيل أن تكون سجلات 1978 موجودة»، تقول ليلى مغربل. تضيف: «إن كان اسم الأم في الوثيقة مجهولاً، فمن الطبيعي ألّا تكون مسجلة في سجلات المستشفى». المعلومة الأولى شبه الأكيدة أن يولاند وُلدت هنا في عائشة بكار: إما في المستشفى وإما في بيت صايغ. تخرج الشابة بمعلومتها إلى يولاند. تقول لها إنها من المرجح أن تكون قد ولدت هنا. تتغيّر ملامح يولاند. وجدت مكانها. تبتسم. تسحب من حقيبتها آلة تصوير للاحتفاظ بصورة المكان. ثم تسحب خريطة وتطلب من السائق أن يضع علامة حمراء إلى جانب «آيشي بكار».
الابتسامة لا تفارقها طيلة الطريق. لكن، ثمة حزن في العينين الصغيرتين. فمن المرجّح أنها وجدت مكانها، أما والدتها فلا.
إلى البحر. المحطة الأخيرة. هناك، تعاود رواية قصّة لم تنته فصولها. وهناك تبكي لأنها لم تعرف شيئاً عن الوالدة التي لا تزال تكنّ لها الحب.


بين آرثر بروك ويولاند

قبل بضعة أعوام، أتى آرثر بروك إلى لبنان للبحث عن عائلته. لم يكن الشاب بحاجة إلى عائلة، وخصوصاً أنه يعيش في كنف أسرة تحبّه. لكن، رغبته في البحث عن العائلة الأولى تشبه رغبة يولاند ريميرسا (الصورة) التي أتت قبل بضعة أيام للبحث عن والدتها. فالاثنان يحتاجان إلى رؤية من وُلدا من رحميها. لا أكثر ولا أقل. لكن، الفارق أن آرثر وجد من عائلته عمّاً، أما يولاند فلم تجد من عائلتها أحداً خلال فترة الأسبوع التي قضتها في بيروت. فهي لا تملك اسم عائلتها ولا اسم أمها ولا أبيها، ولا أيّ شيءٍ آخر. فهي في «المصطلح اللبناني»، ابنة غير شرعية، ومن الصعب إيجاد أم وأب مسجّلين في سجلات دائرة الأحوال الشخصية في وزارة الداخلية والبلديات تحت خانة «المجهول». والجدير ذكره أنّ آرثر بروك نشر كتاباً يروي فيه رحلة البحث عن جذوره.
رغم تلك الأدلة، لم تجد الشابة الراحة، وقصدت لبنان للبحث عن أمها بطريقتها الخاصة، التي ارتأت أن «تكون فيلماً عن حياتي الخاصة لعلّ أمي تراه». لهذا السبب، قصدت يولاند إحدى المحطات التلفزيونية تطلب منهم الفيلم.
يوم الأربعاء الماضي، طرقت باب تلك المحطة وطلبت مقابلة «مِس هلا». روت ما تعرفه عن الأشهر الخمسة التي استنتجت أحداثها من الوثائق التي في حوزتها ومن أحاديث المرأة التي سلّمتها إلى عائلتها الهولندية. استغرب المستمعون قصتها، ولكنّ إصرارها على معرفة اسم والدتها ورؤيتها دفع بالمسؤولين عن المحطة إلى الموافقة على طلبها ومرافقتها إلى الأمكنة المسجّلة في وثيقة الميلاد وزيارة الأشخاص الواردة أسماؤهم فيها وبثّها بالصوت والصورة على التلفزيون.