يفضّل أصحاب المشاتل في الشمال توظيف عائلة بكاملها لتقطن داخل المشتل، ما يفيدهم في يد عاملة «غير محسوبة»، غير آخذين بعين الاعتبار توفير المقومات لهذه العائلات. هكذا، تهاجر العائلات الفقيرة من قراها إلى أماكن تراها للمرة الأولى لتكتشف فيها قدرتها على الاستمرار
زغرتا ــ فريد بو فرنسيس
«صارت الساعة السادسة، رح يصير الظهر، يللا تحركوا قبل ما تحمى الشمس»، نسمع من المكان الذي نقف فيه في الباحة سنية تنادي أولادها، الذين كانوا يغطّون في نوم عميق، ثم تخرج إلينا وهي تهمّ بحمل معولها «تأخّروا كثير بالشغل امبارحة، كان الطقس شوب كتير وتعبوا من الشغل بالشمس». زوجها، محمود، كان قد سبقها إلى المشتل، حيث العمل المتواصل لا يفرّق بين رجل وامرأة. كلهم واحد في الحقل، يتقاسمون العمل ذاته يوميّاً من دون تمييز. العائلة مؤلّفة من ثلاثة أولاد: فتاتان وصبي، إضافةً إلى الأم والأب، انتقلوا حديثاً للعيش في مشتل للزهر وزراعة الشتول والنصوب. ومع أنّ العيش بين الزهور جميل للناظر من بعيد، فإنّ الحياة الفعلية هنا شيء لا يُحسدون عليه على الإطلاق. فالعائلة تتقاسم غرفتين سقفهما من تنك، وجدرانهما من خفّان، تعشّش فيهما الرطوبة، ويصح فيهما ما يقال: بالصيف حريق وبالشتا غريق»، وبما أننا في الصيف، فالحريق شغّال، وخاصةً مع الانقطاع المتكرّر للكهرباء.
تعاني سنية وعائلتها ظروفاً مادية صعبة أجبرتهم على الانتقال إلى هنا للعيش في بيت صغير بالكاد تستطيع التحرك في داخله. «ارتضينا العيش هنا لأننا نعمل جميعنا في مكان واحد، يوفّر علينا نفقة التنقّل على الطرقات على الأقل، إضافةً إلى أنه لا يوجد عمل نتقنه سوى العمل في الأرض» كما تقول، وتضيف «نقبض من أصحاب المشتل معاشاً شهرياً بمعدل ألف دولار أميركي شهرياً، ولا ندفع بدل إيجار ولا كهرباء ولا ماء أو غيره، أمّا المأكل والمشرب ومستلزمات الحياة الخاصة فهي على نفقتنا». أي إنّ معدل أجر كل منهم لا يتجاوز 200 دولار في الشهر! المشتل مملوك لأشخاص من قضاء الضنية استأجروا أرضاً واسعة في بلدة كفردلاقوس في قضاء زغرتا ليقيموا عليها مشتلاً. لكن العائلة تحمد ربها «الحمد لله وجدنا عملاً معاً، والعمل في الأرض ليس عيباً بل هو شرف للإنسان أن يتعلق بأرضه وبلده» تقول ربيعة، الابنة الصغرى، التي لم تبلغ بعد الثامنة عشرة من عمرها. عندما يستفيق الوالد عند السادسة كل يوم تستفيق معه العائلة كلها «أول ما أفعله هو التوجّه فوراً إلى البوابة الرئيسة للمشتل لفتحها» يقول. والحركة داخل المشتل لا تهدأ طيلة النهار خلال الربيع والصيف، ومع حلول ساعات الليل «يأتينا الزبائن حتى أثناء الليل ليشتروا منا شتول الورد أو غيرها من شتول الزهر المتنوّع، حسب موسمها»، يقول محمود. وكما أنّ الكل يعمل حتى في عين الشمس، فلا شيء يمثّل عائقاً يوجب توقّف العمل، «العمل لا يتوقّف في المشتل. هناك الكثير من الأمور التي يجب إنجازها يومياً، حتى في الشتاء والعواصف لا نتوقّف». إنهم لا يتقنون أيّ عمل آخر سوى العمل في الأرض، وحتى الأولاد منهم تدرّبوا على هذا العمل، الفرص معدومة ولا يُسمح لهم بترك المشتل بطريقة جماعية، لكنهم يتركون لساعات قليلة بطريقة إفراديّة لتفقّد منزلهم، أو لجلب بعض الأغراض الخاصة منه. وتقول ربيعة ببعض حزن وخجل «لم نستطع إكمال دراستنا، ليس لعدم حبّنا للتعلّم، بل بسبب الفقر الذي نعانيه، ومتطلّبات الدراسة التي ترتّب علينا أعباءً مالية لا قدرة لدينا على تحمّلها». وتضيف «تركت المدرسة في العاشرة ووصلت إلى الصف الرابع الابتدائي، إنني أُحسن القراءة جيداً، والكتابة ببطء، لكنّني لم أنقطع عنهما يوماً، فأنا أقرأ باستمرار».
تنطلق سنية إلى ساحة العمل بين شتول البقول الصغيرة المتنوّعة، وينطلق وراءها ولدها الصغير رغيد، الذي تجاوز الرابعة بقليل، وبالكاد يستطيع التنقّل في أرجاء الحقل بين التراب وعلب البلاستيك المملوءة بالغرسات. تراه يحاول تخطّي عدة درجات من الإسمنت كي يصل إلى حيث تعمل والدته، فالحقل مرتفع قليلاً عن المكان الذي تسكنه العائلة، وقد اعتاد رغيد أن يلحق بوالدته حيثما تذهب. أما باقي أفراد العائلة، فكلٌّ منهم يعرف ما يجب أن يفعله، والعمل موزّع على الجميع من دون استثناء، ومتواصل حتى غروب الشمس «يجب أن نروي الشتول الصغيرة صباح كل يوم، وخاصةً إذا كانت الحرارة مرتفعة، وكذلك يتكرر العمل عند المساء» يقول محمود، ويضيف «فضلاً عن تفقّد الغرسات الموجودة داخل البيوت البلاستيكية، والأخرى الموضوعة في الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس».
العائلة انتقلت حديثاً من قضاء الضنية، بعدما جرى ترحيل عائلة كانت تقطن سابقاً في المكان نفسه، «نحن نفضّل دائماً وجود عائلة بكاملها تعمل في المشتل، لأن هذا الأمر من شأنه أن يضمن استمرار العمل فيه، ووجودهم الدائم يوفّر علينا المزيد من العمال للحراسة وغيرها»، يقول خالد عبيد صاحب المشتل. ويضيف: «من الصعب جداً أن تجد عائلة لبنانية بكامل أفرادها ترغب في الانتقال إلى المشتل والعمل فيه، ليس لعدم توافر الراغبين في العمل، بل بسبب مواصفات العائلة التي نرغب في وجودها داخل المشتل، فالثقة هي العامل الأساس في العمل، إذ كما تعلم، نحن غير موجودين دائماً معهم، وبالتالي يستطيعون البيع كيفما يشاؤون، وبالأسعار التي يرتأونها من دون معرفتنا. لذلك الثقة مهمة، إضافةً إلى عامل الخبرة في العمل وحب الأرض، وهي عناصر مهمة في هذه المهن، وخاصةً أنّ الغرسات والشتول الصغيرة تتطلب عناية خاصة، وجهداً وخبرة، والطلب يتزايد عليها تزايداً كبيراً، نبيع منها قدر الإمكان محلياً، أمّا الباقي، فنشحنه إلى الخارج في شاحنات خاصة مبرّدة».


الشتول المحلية

يلفت صاحب المشتل خالد عبيد إلى أنّ مواجهة ما أكلته النيران خلال الأعوام الماضية تقتضي زيادة المساحات الخضراء. ويضيف:«من هنا نجد التهافت على نصوب الشجر، وخصوصاً الصنوبر والزيتون، كما أننا ننصح بشدة بأن تكون الشتول المستخدمة محلية، لكونها تتلاءم مع الطبيعة المناخية اللبنانية ببساطة، لأنها ابنتها، كما أنها خالية من الأمراض، التي تحملها معها تلك المستوردة من الخارج غير المتناسبة مع الظروف البيئية وطبيعة المناطق الزراعية، ما ينعكس سلباً على إعادة تأهيل الغابات المتضررة، ويجعلها غير قادرة على مواجهة التحديات المناخية».