كلمح البصر، طُويت 4 سنوات من عمر الحرب. كبُرت المسافة بين عام الرعب وعام الذكرى الرابعة. ثمة ما لم يساعد على النسيان: شواهد الحرب المجنونة. ركام الذكريات التي دُفنت والذين دُفنوا. وثمة من لم يساعد على ابتلاع بشاعة أيام الموت المتنقل. ولعل أهمها قصة التعويضات
راجانا حمية
4 سنوات مرت. لكن الحرب لم تمت بعد. فالحياة لم تعد إلى كل المناطق التي طالها القصف. بقي النبض فيها ناقصاً. ففي بعض القرى، الجنوبية تحديداً، لا تزال بعض البيوت مسوّاة بأرضها بسبب تقاعس المعنيين بالتعويض وإعادة الإعمار. ولئن كان «لا عتب» على الدولة، رغم ذنبها، لكونها عوّدت مواطنيها على أن تكون مسيرة التعويض بحاجة «لصبر أيوب»، إلا أن بعض الناس، برغم الإنجاز الهائل لـ«وعد» (المتفرعة عن جهاد البناء) في إعمار الضاحية، أو ربما بسبب ذلك الإنجاز عاتبون على ما بدا لهم كأنه سير مؤسسة جهاد البناء التابعة لحزب الله على خطى الدولة، وهي المكلفة بالمساعدة بطلب من الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله.
زعل هؤلاء، لأن صمودهم لم يُقدّر حتى النهاية. هكذا قالوا. ورأوا أن «التعويض هو عمّا دُمر. عن الذعر. عن الخوف»، تقول هيفاء محمد مكي من بلدة فرون. السيدة التي خسرت منزلها في البلدة ثالث أيام الحرب، كتبت إلى السيد نصر الله 14 رسالة تشكو له فيها تعاطي المؤسسة مع ملفها.
بدأت القصة ثالت أيام الانتصار. أتى المهندس لتقدير قيمة الأضرار وأخذ بعض التفاصيل عن المنزل المسوى بالأرض: المساحة. العفش. عدد الغرف.. ملأ استمارته وذهب. لم تجلب الاستمارة سوى «هدية قيمتها 500 دولار أميركي»، تقول مكي. وتضيف «هيك قدّر الرابط»، وهو لقب المسؤول في القرية من جانب حزب الله، وعادة يكون من سكان تلك القرية. والسبب؟ أن «تعويض الدولة يكفي لإعادة بناء البيت»، تضيف. لم تقبل الهدية ولا حتى الهدية التالية، معيدة بناء بيتها «من تعب إبني». تعود مكي سنوات إلى الوراء، عندما «كنا مأجرين بيتنا لحزب الله». تقول «لم أستوعب بعد آلية التعويض على الناس، فعلى سبيل المثال رابط الضيعة لم يكن يملك بيتاً والآن بات يملك، وجيراننا الذين كانوا يملكون مبنى بثلاث طبقات، باتوا يملكون حياً»، كما تقول.
الحيرة نفسها يواجهها غالب الزين. وهو الرجل الذي رفض قبول التعويض البالغ 500 دولار أميركي عن سقف مطبخ منزله في القرية. عندما ضُربت بافليه، سقطت إحدى القذائف على سقف الطابق الأول من المنزل الحجري القديم. سقط سقف المطبخ ومعه جزء من سقف الصالون. بعد انتهاء الحرب، حضر المهندس وأجرى كشفه وخرج بتقدير القيمة بخمسمئة دولار أميركي. رفض الزين التعويض، فأجري كشف ثانٍ للمنزل. ارتفعت الكلفة إلى 1000 دولار أميركي «بعد منظبطها»، قال له المهندس. رفض الزين مجدداً، والسبب؟ أن «تقديرهم أن السقف سقط نتيجة وضع خاص بالبيت»، يوضح الزين ما قاله له المهندس.
كتب كغيره من المتضررين، رسائل إلى السيّد. جاءه الرد على رسالته «ليس من السيد بالتأكيد»، ولكنه أكد له ما كان قد قاله المهندس: «بيتك منّو متضرر من الحرب».
رسائل كثيرة كتبها المتضررون إلى السيد. قالوا له فيها «لم نكن نعتقد يوماً أنه سيكون هناك ناس بسمنة وناس بزيت، فحفظ كرامات أشرف الناس يقتضي الاستماع إليهم وإلى مشاكلهم». سألوه «هل بالإهمال يُكافأ الصامدون والصابرون؟». وطلبوا الإجابة.
ما تقوم به جهاد البناء هو مساعدة لا تعويض بالمعنى الحرفي للكلمة
الإجابة لم تأتِ بعد. لكن، قبل كل شيء، لا بد من الإشارة إلى أن ما تقوم به جهاد البناء هو «مساعدة»، لا تعويض بالمعنى الحرفي للكلمة. وهنا، يوضح المهندس حسين خير الدين (مدير وحدة الترميم) «أننا سميناها مساعدة لأنه كان طالع معنا أن على الدولة التعويض على الناس، وهي مساعدة لأننا قدرنا الأضرار فقط، دون تقدير الخوف والتهجير، وهو ما لا نستطيع تعويضه».
أما بالنسبة إلى المعترضين على هذه المساعدة، وخصوصاً من فئة أصحاب البيوت المتضررة جزئياً، فـ«أموالهم موجودة»، مضيفاً أن عدد من لم يتقاضَ تعويضه «حوالى 10 حالات فقط». يتساءل فخر الدين «عوّضنا ما لا يقل عن 100 ألف وحدة سكنية، وعم نحكي بشي 200 شخص معترضين؟». مع ذلك، لم يرض خير الدين ببقاء «الزعلانين زعلانين»، فالأبواب مفتوحة لهم متى شاؤوا، «إلا أنني على يقين مطلق بأن الكل تقاضى حقّه». ويبرّر أنه «أكيد عندما نزلنا إلى الأرض عقب يومين من الانتصار، كنا نعمل بسرعة رهيبة، ومن الطبيعي أن يكون هناك بعض الأخطاء، ولكنها ليست أخطاءً خطيرة».
وتعويض جهاد البناء، مقسوم إلى قسمين: التعويض على البيوت المتضررة والتعويض على البيوت المهدمة، وهي البيوت التي يُدمر منها ما لا يقل عن 60% من المنزل.
بالنسبة إلى الجزء الأول، أرسلت المؤسسة مهندسين لتقدير حجم الأضرار. قوّمتها، وعلى أساس التقويم، مُنح المال. لم تكن المؤسسة تنتظر ما يمكن أن تفعله الدولة لهؤلاء. عوضتهم دون احتساب ذلك. في حينها، وقفت المؤسسة أمام خيارين: إما الدفع أو أن تقوم هي بالترميم. وبعد جلسات نقاش، ارتأى المهندسون أن تدفع هي المال وأن يرمم المالك. والسبب؟ أن «استلامنا الترميم سوف يدخلنا في مشاكل مع الناس، لأن جهة واحدة لا تستطيع إرضاء الناس دفعة واحدة، ومن الطبيعي أن يُسرَّع بناء بعض البيوت على حساب أخرى».
لكن، ماذا عن البيوت المهدمة؟ كان واضحاً أن إعادة إعمارها ستتطلب وقتاً، لذلك ابتكرت المؤسسة مشروع «الإيواء»، الذي يُعطى بموجبه صاحب الوحدة المدمرة حوالى 8 آلاف دولار أميركي «عفش» وما بين ألفين و4 آلاف للإيجار لمدة عام. لكن، لم يكن الوقت وحده العائق، إذ برزت عوائق أخرى منها اعتراض الناس على آلية التعويض. وهنا، يشير خير الدين إلى أن «تقدير قيمة التعويض الممنوح من جهتنا كان يستند إلى قيمة كشوفات الدولة، وتقسيماتنا للبيوت إلى مستويات حسب نوع البناء: عادي. وسط. جيد. جيد جداً». خلقت تلك المستويات المشكلة، وخصوصاً في الجنوب حيث ترك أمر إعادة البناء إلى أصحاب البيوت أنفسهم. ويقول خير الدين «إنه بناءً لكشوفات الدولة وتقدير المهندسين لقيمة الأضرار، كنا نحدد التعويض». يعطي مثالاً «إذا ما قدرنا أن هذا المنزل، وتبعاً للمستوى، تبلغ كلفة إعادة إعماره 90 مليوناً، فنحن نعطيه 30 مليوناً على أساس أن الدولة ستعطيه 60 مليوناً عن وحدته السكنية، أما إذا كان تقديرنا أن كلفته 50 مليوناً فلا نعطيه شيئاً».
هذا في الجنوب والبقاع والشمال، أما في الضاحية وبيروت، فقد تكفل مشروع «وعد» بالبناء، على أن يوقّع أصحاب البيوت على ورقة بالتنازل عن تعويض الدولة لمصلحة المشروع. إذا تبين أن كلفة إعادة بناء بعض الوحدات يفوق تعويض الدولة، تكمله جهاد البناء، وفي حال العكس، تعيد المؤسسة جزءاً من مال الدولة إلى صاحب المنزل. أما أموال الدولة، فلا تستطيع جهاد البناء إيفاءها للناس عنها. والانتظار أفضل من «الخدمة المجانية للدولة»، يقول فخر الدين.


عوّضنا على قدر قيمة الضرر

في حضرة الذكرى الرابعة، تحصي مؤسسة جهاد البناء نتيجة أعمالها طوال فترة السنوات الأربع التي مرّت. فالنسبة إلى البيوت المتضررة، تثق المؤسسة بأنها «دفعت تعويضات على قدر قيمة الضرر»، يقول مدير مشروع الترميم حسين فخر الدين. اللافت هنا أن عدد الوحدات المتضررة يبلغ حوالى 7 أضعاف المهدّمة. وقد بلغ مجموع المرمم منها حوالى 64 ألفاً و277 وحدة سكنية. كما هُدمت 8645 وحدة سكنية، وأعيد بناء غالبيتها.
أما بالنسبة للمحال والمستودعات، فما بقي منها قيد التشطيب أو الشغل، هدماً وترميماً، حوالى 2500 وحدة. ثمة مشكلة واحدة تواجهها المؤسسة تتعلق بالتعويضات، وهي عندما يكون لصاحب البيت «في ذمة الدولة تعويض عن وحدة سكنية وملحق». ولأن الدولة لم تعوّض هؤلاء «عن الملحقات»، فلم تستطع جهاد البناء دفع القيمة الكلية لإعادة البناء «بانتظار بت الدولة هذا الأمر». وهنا، تقع مشكلة إضافية مع الأهالي الخائفين من ألا تأتي تعويضات الملحقات وبألا تعوّض عليهم المؤسسة. أما هي، فلا طاقة لها إلا انتظار الدولة. وإذا لم تتحرك الأخيرة فـ«لكل حادث حديث».