أنسي الحاجصرفتُ مع الأخوين رحباني سبعة أعوام. كنتُ أحياناً أمضي معهما استماعاً إلى مشاريعهما وكتاباتهما وألحانهما أكثر ممّا كنتُ أمضي في عملي الصحافي أو في حياتي الخاصة. لم يكن ذلك وظيفة مدفوعة بل اندفاعة كانت شرارتها مقالة صغيرة عن فيروز نشرتُها ربيع 1963 في مجلة «تي.في. ماغازين» ذات اللغتين. اتصلا بي (لم أكن ـــــ وظللتُ أشهراً ـــــ لا أميّز على الهاتف صوت عاصي من صوت منصور) وشكراني، مع التحفّظ، وأبديا رغبةً في اللقاء. التقينا في أحد مطاعم الروشة. وحتّى شتاء 1969 لم يكن يمرّ يوم دون تهاتف أو لقاء. أمّا التحفّظ، وقد شرحاه خلال اللقاء، فلقولي في المقال إن صوت فيروز، بصرف النظر عن اللحن والشعر، فريدٌ وفذّ ولا يقبل المقارنة بغيره، لأنّ فيه ذلك «الشيء الأكثر» الذي لا يُفسَّر.
كان حافزي الأول والأكبر على هذا التعاون شغفي بصوت فيروز. وكان الأخوان يمازحانني معاتبين على اعتبار أنّي أقدم مقام صوتها على مقام شعرهما وألحانهما. لم يكن ذلك صحيحاً ولا كان غير صحيح. لم يرِد في الذهن. هكذا كان الانطباع الأوّل. كان صوت فيروز هو الظاهرة. والظاهرة تسبق التحليل. عند التحليل لا يمكن المرء إلّا أن يُعجب، على نحو تصاعدي مع الوقت، بالمواهب الخلّاقة الساطعة التي رفعت عبر الصوت الفريد ذلك البنيان الشامخ الذي لا يكاد يعرف حدوداً. ليس هناك صدف بل أقدار مموَّهة. لقاء الثلاثي كان حتماً عليهم بخيره وشرّه. ولولا شرّه، وهو الآلام الشخصيّة، لما كان خيره.
هذا مثل على ما يدفعه الإنسان ثمناً لما يرقى به فوق محكوميّته، ضريبة الجمال والروعة. طبعاً كان يمكن الأخوين رحباني مواصلة مسيرتهما الفنيّة بدون فيروز ولكنها كانت ستكون خالية من قلبها النابض.وكان يمكن فيروز أن تكمل مسيرتها الغنائيّة كما بدأتها بدون الأخوين رحباني وكان صوتها سيظلّ فريداً ولكنّه ما كان سيصبح ركناً جوهريّاً في بنيان تخطّى صانعيه ليغدو بديلاً من مكان ومن زمان ومن امرأةٍ ومن رجل ومن واقعٍ ومن حياة. لقد وقع صوت فيروز مع الأخوين رحباني في أسر الكمال.
■ ■ ■
لم نكن نتوقّف مليّاً أمام التأليف والتلحين لأنّنا، في «إصابتنا» بالصوت، كنّا نعتبرهما أمراً طبيعيّاً. وفي هذا وحده ما فيه من ظلم ولكنْ أيضاً من مديحٍ ضمني تلقائي للتأليف والتلحين. الظلم لأن الكاتب والملحّن يستحقّان جهد الناقد والباحث لتبيان تميُّزهما ومواضع الاختلاف والتطوّر لديهما ونقاط الضعف حيث توجد، كما يستحقّان تقدير ما يقدّمانه للصوت من غذاء وأجواء وأساليب تُمكّنه من التجلّي بأبهى حلله. لم يكن معظمنا يعطي هذا الجانب حقّه في الصحافة لأننا في لاوعينا البريء كنّا نعتبر أن فيروز هي الأخوان رحباني كما أن الأخوين رحباني هما فيروز. وهذا هو المديح عينه.
في الشريط الذي سجَّلته ريما الرحباني العام الماضي لفيروز في مناسبة ذكرى عاصي، قالت فيروز ما معناه إن عاصي كان، بالنسبة لعملها، «كلّ شيء». لم تقصد فيروز الانتقاص من دور منصور، فلا أحد يجهل أنه بذل قصارى موهبتيه الشعريّة والموسيقيّة في خدمة صوتها، ولكن القصد هو أن شخصيّتها الفنيّة من الاستديو الإذاعي إلى المسرح هي صياغة عاصي. وهذا ما أكّده لي مراراً منصور نفسه. كنّا في مطلع 1969، وكان منصور يقود سيّارته في شارع الحمرا. وكان يتحدّث بصوته الدافئ عن ثلاثتهم، وتركيزاً على فيروز وعاصي، قال: «عاصي حطّ كلّ طاقاتو بخدمة فيروز. لصوتها ولكل تفاصيل شخصيّتها الفنيّة. شايف المشية اللي بتمشيها ع المسرح؟ حركات كتافها؟ كلّو هيدا شغلو». شهادة منصور لعاصي (في هذا وفي سواه) ليست برهان محبّة ووفاء فحسب، بل هي برهان تاريخي قاطع لمَن يضيع في الحدود بين الأخوين. كان منصور يحرص دائماً بتفانٍ عزَّ نظيره على هالات عاصي. ذات مساء ألحّ عليه نفرٌ من الصحافيين، على أدراج البيكاديللي الداخليّة المفروشة بالسجّاد الأحمر، أن يدلَّهم على مواضع الفرق بينه وبين شقيقه موسيقيّاً وشعريّاً ومسرحيّاً. حاول كعادته أن يهرب وراء العموميّات لا لشيء إلّا لأن سرّ التوحُّد بينهما مصبوبٌ ليظلّ سرّاً. لكن السائلين أحرجوه، فقال ما لا أريد إعادته هنا لأنه سبق لي أن لمّحتُ إليه على إحدى الشاشات، وخلال حياة عاصي، وفُهم على غير قصده. لم يأكل منصور ولا مرّة من حقّ عاصي وما قصّر عاصي مرّة في حديث الإعجاب بمواهب منصور، وكان يشعر بزهو مؤثّر حين يستجيب منصور طلبه، في السهرات، ويلقي قصيدة جديدة له. قال لي منصور مرّة: «أوقات عاصي بيقسا كتير بالشغل، ويمكن مع فيروز، بس بتعرف، فنّان بحجم عاصي لازم الواحد يفهمو. ضخامة موهبتو بتغطّي ع الباقي».
■ ■ ■
المواقف السلبيّة (تحذيرات قانونيّة ودعاوى وغيرها) التي كان يتّخذها منصور حيال فيروز بعد غياب عاصي لم تكن مجرّد تدبير قانوني بقَدْر ما كانت ثمرة حساسيّات شخصيّة تعود إلى زمنٍ سابق لمرض عاصي. كان لمنصور تأثير نفسي كبير على عاصي، وما يربط بينهما من وشائج كان يبدو أحياناً أعمق وأقوى ممّا يربط بين عاصي الزوج وفيروز الزوجة. على الصعيد الفنّي ترك هذا الواقع آثاره الإيجابيّة، حين بلغ التماهي في إنتاج الأخوين ذروته، ولم يؤثّر سلباً على أداء فيروز، مهما كانت مشاعرها حيال تفوّق نفوذ منصور لدى عاصي على حظوتها هي لدى شريك حياتها. هذا الموضوع حقل ألغام، خصوصاً بعد عمليّة تجميل الأنف التي خضعت لها فيروز عام 1968 (إذا لم تخذلني الذاكرة). ربطتني صداقة حميمة شبه يوميّة بالأخوين رحباني ابتداءً من ربيع 1963 واستمرّت حتّى أواخر 1969. في هذا العام حصل ما وتّر الجوّ ثم عكّر الصداقة ثم قطعها. كان الأستاذ سعيد عقل أحد الشهود على الخلاف. قلتُ قبل سنوات في مقابلة تلفزيونيّة إنّي أتحمّل مسؤوليّة انقطاع العلاقة بيني وبينهما وأضع اللوم على نفسي في حصول المشكلة أساساً. ولا أزال عند قولي. ولكن هذا ليس موضوعنا. أعود من هذا التفصيل إلى ما أَوْجَبَ إيراده، وهو أن عاصي الرحباني، رغم تنكيتاته أحياناً ضدّ النساء، كان شديد الاطمئنان إلى زوجته، أوّلاً لسلوك فيروز الذي لم تشبْهُ شائبة، وثانياً لطبيعته التي تغلب عليها الطيبة والرقّة، وثالثاً لأن منصور شبه الملازم له على مدار الساعة كان عينه الساهرة ولو أُغمضتْ في السهرات.
كانت لعاصي في خلق الشخصيّة الأثيريّة لفيروز اليد الطولى، ويمكن استشفاف ذلك من تأليفه وتلحينه لأغنياتها الأولى (عتاب، راجعة، وقّف يا أسمر...)، ومن أدوارها الأولى في الاسكتشات ثم في الأوبريتات والمسرحيّات، وأبرزها في البدايات الصبيّة البعلبكيّة في «رحيل الآلهة» (1960) والصبيّة المرصودة في «جسر القمر» (1962). المرأة ـــــ الحلم، الملاك المؤنَّث، «البطرك» كما كان يسمّيها مداعبةً وإشارةً إلى عصمتها، هذه دون ريب صناعة عاصي، بيغماليون الفنّ اللبناني. لكن هذه الصناعة لم تبنِ من فراغ ولا على فراغ بل من أساس جاهز. لقد تمَّمت. شخصيّة فيروز الطبيعيّة جاهزة تلقائيّاً لهذا الدور، ولو لم يُتمّمه لها عاصي الرحباني لحاكته لها حياتها العاديّة وصوتُها الآتي أصلاً من مصادر السحر.
حسب ملاحظتي، كان لمنصور دور مهمّ في تحصين هذا الدور. لا أدّعي معرفته بالتفصيل، ولكنّي أتكهّن مجرّد تَكهُّن، وانطلاقاً من معايشتي لمنصور واكتناهي لقصائده. كان منصور يتطرّف أحياناً أكثر من أخيه في الحرص على الصورة الأثيريّة لفيروز، لا في الغناء والتمثيل فحسب بل في المجتمع والصورة العامة. كان عاصي أبويّاً في صرامته وكان منصور مثاليّاً في حرصه، وككلّ مثاليّ، لا يرضى بأقلّ من الكمال. وفي احترامه للحدود لم يكن منصور يُسِرّ بملاحظاته، إذا كان من ملاحظات، لزوجة أخيه بل لأخيه، وما يقوله منصور مقدَّس عند عاصي.
وفي شأن الحساسيات لا بدّ من الإشارة إلى قضيّة طالما ذُكِرَتْ، وهي شعور الغبن الذي كان يصيب الأخوين حيال العادة المألوفة لدى العامّة، ولدى الخاصّة كذلك، والقاضية، عند الاستشهاد، بنسبة الكلام إلى فيروز لا إلى المؤلفين. طبعاً هذا ثانوي، وهو ينطبق على جميع المطربين والمطربات في العالم كلّه، لكنّه في هذه الحالة بالذات كان يشكّل للأخوين، بعض المرات، ما يشبه المرارة.
يكفي هذا المقدار لشرح بعض أسباب الحساسية.
مَن استمع حول الخلافات إلى منصور كان يظنّ أن فيروز هي البادئة ومَن يعرف الاثنين يعرف أن فيروز ليست هي البادئة، وقد أمضت عمرها معتصمة بالصمت حتّى أضحت صنواً له، ولولا تألّم ريما حيال التجنّي اللاحق تارةً بأبيها وطوراً بأمّها، هذا التألّم الذي بلغ بها حدود الانفجار أخيراً، لما كان شيء قد خرج إلى العلن.
■ ■ ■
لا أحد ينكر دور منصور الموسيقي في جهاد الأخوين رحباني. ولا أحد ينكر شاعريّة ملتقط الشذرات الذهبيّة من درب البَرق الخاطف. والكلّ يعرف حذق منصور في التقصّي وتضلّعه الثقافي العميق. وحتّى الذين يعرفون أهميّة عاصي التلحينيّة، وأوّلهم منصور، لا يغمطون منصور الموسيقي حقّه ولا يستطيعون. وسيبقى هذا الحقل (أيٌّ هو عاصي وأيٌّ هو منصور) موضع بحث طويل للباحثين، وإذا كانت معالم التمييز واضحة في أماكن فهي تعود وتختلط في أماكن أخرى، وهذا السرّ يزيد في الرونق.
البنيان على كل حال أكبر من التفاصيل. والثلاثة، فيروز وعاصي ومنصور، أكبر من كل واحد على حدة. والثلاثة واحد. والواحد أصبح ذاكرة شعوب بأسرها: ذاكرة تطَهَّرَ فيها واقعنا ونتمنّى أن يظلّ قادراً على التطهُّر.
لقد خسرنا عاصي ومنصور. الوفاء يقضي بأن نصون المؤتمنةَ على الهيكل. إذا كان الإنسان أهمّ من السبت فالرمز أهمّ من الواقع والقيمة المعنويّة والجماليّة أعظم من أن تداس بأقدام المحاسبة القانونيّة، على خطأ كانت هذه المحاسبة أو على صواب. يكون أبناء منصور أقرب ما يكونون إلى جوهر الإرث الرحباني عندما يَرِثون منه الاحتضان والحنان ويطوون صفحة الجروح والغضب.
معاذ الله أن تكون هذه نصيحة وإنما هي رجاء. رجاء حار صادق بعد انحسار العاصفة. فيروز ليست مجرّد ناطورة مفاتيح بل هي المفتاح، وليست فقط صاحبة حقّ قانوني في ميراث الأخوين رحباني بل هي أحد الأسباب الكبرى لانطلاق هذه المسيرة وأجمل وجوه تعبيرها على الإطلاق، ومن غير اللائق الكلام على قوانين وتدابير بوليسيّة بينما نحن في حضرة المواهب الخارقة. لم يبخل الأخوان رحباني على فيروز بحياتهما نفسها ولا بخلت فيروز عليهما بشيء. الثلاثة عملوا ليل نهار ودافعُهم دعوة قَدَريّة. تَرهُّبٌ لم يعرفه فنّان. وإن في هذا مرتبة قداسة لا مجرّد مجد. لقد «رموا السعادة للناس» ولم تزهر في أيديهم، عكس ما قالت الأغنية، إلّا الشوك. دعونا نغرق في المحبّة والغفران رحمةً لا بفيروز وحدها، بل بآذاننا ونحن نصغي إلى أعمال هؤلاء العمالقة، رحمةً بها من وحش الواقع. لقد أمضى الثلاثة عمرهم ينسجون لنا الحكاية التي تحمينا من الواقع، ولا يحقّ لأحدٍ تشويه الحكاية.