شهد شهر تموز الماضي اعتداءات على مستشفيات. أُدين المعتدون وممارساتهم. لكن لا أحد يتكلم عن الأسباب التي سبّبت الاعتداءات. هل الأمر مرتبط بطباع البعض السيّئة؟ أم أن الفقر والعوز يدفعان إلى مواجهة من يرفض استقبال مريض؟
محمد نزال
فوجئ العاملون في مركز «سان خوان» الطبي في ولاية نيو مكسيكو الأميركية بدخول كلب مصاب عبر باب الطوارئ من تلقاء نفسه، كأنه يبحث عن مساعدة، وهو ينزف دماً من أنفه وبعض قوائمه. بعد معاينته من قبل الأطباء، تبيّن أن إصابته غير خطرة، فقدّمت له المستشفى الماء والراحة بانتظار أن يُنقل إلى دار إيواء للحيوانات. ورد هذا الخبر في صحيفة «دايلي تايمز» الأميركية مطلع الشهر الفائت، وذلك بالتزامن مع تفاقم ظاهرة الاعتداء على المستشفيات في لبنان، وخاصة على أقسام الطوارئ فيها، التي كان المعتدون يشكون من «عدم معالجة مرضاهم إلا في حال توافر المال أولاً».
استطاعت القوى الأمنية توقيف عدد من المعتدين، وذلك بعد احتجاجات واعتصامات من قبل أصحاب المستشفيات والعاملين فيها. قيل الكثير عن الاعتداءات التي حصلت خلال الشهر الماضي، وخاصة أنها طالت أكثر من مستشفى على مختلف الأراضي اللبنانية، فصدرت بيانات تدين وتستنكر وتدعو إلى معاقبة الفاعلين. كان لافتاً أنه لا أحد يتطرق إلى الأسباب التي دفعت بعض هؤلاء الأشخاص إلى الاعتداء وتكسير زجاج بعض أقسام الطوارئ، بل حتى إطلاق النار أحياناً، مثل ما حصل في مستشفى المقاصد في بيروت. التقت «الأخبار» بعض «المعتدين»، ومنهم الشاب سامر ق. الذي كان قد شارك مع أقاربه في تحطيم محتويات قسم الطوارئ في أحد المستشفيات. يقول سامر رداً على سؤال عن سبب ما أقدم عليه «طبعاً ليس لديّ هواية التكسير في المستشفيات، ولكن عندما يكون شقيقي يعاني نزفاً داخلياً في رأسه إثر تعرّضه لحادث سير على دراجة نارية، ويطلب منا المستشفى دفع مبلغ كبير من المال قبل مباشرة العلاج، فلا تتوقع مني أن أبقى هادئاً، ولا يتوقع أحد مني ألّا أهاجم أياً من المسؤولين، وأنا أشاهد شقيقي يفارق الحياة أمام عيني». بدوره، يتحدث جهاد ع. عن حادثة حصلت معه في أحد مستشفيات بيروت. نقل جهاد على يديه صديقه المصاب في حادث سير إلى المستشفى، وأدخله إلى قسم الطوارئ. وضع الممرّضون المصاب في غرفة الإنعاش، وطلبوا من صديقه إتمام أوراق الدخول في أحد مكاتب المستشفى. ذهب إلى حيث أرشدوه، لكنّه اكتشف أن المبلغ المطلوب أكبر مما في حوزته، فاضطر إلى الاتصال بذوي صديقه المصاب وأخبرهم بالأمر. جاؤوا إلى المستشفى على عجل والقلق يسبقهم، فانتبهوا إلى أنهم لم يحملوا معهم المال من المنزل. قال صديق المصاب للعاملين في الطوارئ إنه سيأتي بالمال بعد قليل، ثم سألهم عن وضع صديقه الصحي وماذا تبيّن لديه. جاء الجواب قاسياً، «لم نباشر بعد أي إجراء علاجي، بانتظار أن تأتونا بالأوراق التي تفيد بأنكم دفعتم ما يجب عليكم». ثارت ثائرة جهاد، وأخذ يشتم الجميع هناك، قبل أن يتفاقم غضبه ويكسر الباب الزجاجي بيده، فأصبح هو نفسه بحاجة إلى علاج.
شهادتا سامر وجهاد لا تعنيان أن كل المعتدين يبدون ردّ فعل حين يمتنع المستشفى عن تقديم العلاج، وهنا يُشار إلى أن المسؤولين المتعاطفين مع من حُرموا العلاج لم يستطيعوا تبرير هذه الاعتداءات. وفي هذا الإطار، يبدي وزير الصحة محمد جواد خليفة تعاطفاً مع الأشخاص الذين يُمنعون العلاج، بسبب عدم قدرتهم على دفع المال الكافي، لكن «لا شيء يبرر الاعتداء على المستشفيات». وفي حديث له مع «الأخبار» قال خليفة إن «الحوادث التي حصلت الشهر الفائت لم تأت من فراغ، حتماً هناك مسشتفيات تخالف القانون وتقصّر تجاه المواطنين المرضى. دائماً نشاهد حالات إنسانية صعبة أمام أبواب المستشفيات وسوء معاملة للمواطن، وهذا ما قلته أكثر من مرة، وعلناً». ويشرح خليفة ما يحصل في هذا الموضوع، فيقول: «صحيح أن هناك حالات من التي ذكرناها، ولكن في المقابل هناك بعض المواطنين يأتون إلى أقسام الطوارئ ويريدون العلاج بسرعة، وهم في الواقع لا يعانون من حالات تستدعي إدخالهم إلى الطوارئ أصلاً. هنا لا بد للعاملين في أقسام الطوارئ من التحلّي بمستوى عال من الخبرة في التعامل مع المرضى، لاستيعابهم واحتواء غضبهم».
أوقفت القوى الأمنية عدداً من المعتدين على المستشفيات، ولكن ماذا عن المساءلة والمحاسبة للمستشفيات التي ثبت أنها تقاعست عن تقديم الطبابة في حالات صحية طارئة؟ يجيب الوزير خليفة بحزم وانفعال: «هناك تعميم على جميع المستشفيات باستقبال الحالات الطارئة فوراً، وهناك مستشفيات قد أوقفت عن العمل بسبب مخالفات من هذا النوع، وجميع العاملين في الحقل الطبي يعرفون ذلك، وقد طلبت من جميع المستشفيات إجراء دورة تدريبية للعاملين فيها، وذلك لكي يتقنوا أساليب التصرف مع المريض وأهله عندما يكونون في حالة هلع وخوف وصدمة». يختم الوزير خليفة بالإشارة إلى أن القانون يمنع أيّ مستشفى من أن ينقل أي مريض إلى مستشفى آخر بحجة أنه لا يملك المال اللازم، فضلاً عن أن «كل المستشفيات تعلم، وحتى تلك غير المتعاقدة مع الوزارة، أننا نسدد لهم دائماً كل الأتعاب والتكاليف للمواطنين الذي يتلقون العلاج في مثل الحالات التي ذكرت».
من جهته، يؤكد المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي أنه في معالجة ظاهرة الاعتداء على المستشفيات، لا بد بداية من «معالجة السبب قبل معالجة النتيجة»، لافتاً إلى أن أغلب الموقوفين لدى القوى الأمنية في قضايا من هذا النوع، تبيّن أنهم اعتدوا بسبب الأوضاع المادية السيّئة التي يرزحون تحتها، وعدم قدرتهم على تسديد نفقات العلاج المترتبة عليهم، مشيراً إلى وجود حالات معينة كان فيها المعتدون في حالة عدم وعي، نظراً إلى تعاطيهم المخدرات.

ريفي: معظم الاعتداءات نفّذها أشخاص عجزوا عن دفع تكاليف العلاج
وقال ريفي لـ«الأخبار» إنه أُلّفت لجنة في قوى الأمن للتواصل مع وزارة الصحة والنقابات المعنية، وقد ربطنا المستشفيات بخط اتصال مباشر بغرف العمليات الأمنية القريبة منها، وأعطيت تعليمات للأفراد بأن تُعطى الأولوية لأي اتصال استغاثة من أي مستشفى. وأشار ريفي إلى أنه طلب من وزارة الصحة، عبر وزارة الداخلية، وضع آلية في جميع المستشفيات «لاستقبال الحالات الصعبة، وخاصة الفقراء الذين لا يملكون مالاً وغير مسجّلين في الضمان أو لدى شركات التأمين، وبذلك نكون قد بدأنا بمعالجة الأسباب بعيداً عن النتيجة».
بدوره، لم ينف نقيب أصحاب المستشفيات، سليمان هارون، وجود مخالفات من هذا النوع، لكنه دعا في المقابل إلى «الموضوعية وعدم تضخيم الأمور». وتوجه هارون إلى المواطنين ودعاهم إلى التحلّي بالصبر أثناء إدخال مرضاهم إلى المستشفيات، إذ إن بعضهم يكونون في حالة خوف وعصبية، ولا يتحملون أن يطلب منهم الموظف المعني ملء استمارة ضرورية، أو أن يقال لهم انتظروا وصول الطبيب المختص بعد الاتصال به، فيظنون أن هناك تأخيراً يحصل عمداً، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا هو الواقع دائماً.


شهادة مسعف ميداني

رامي يعمل مسعفاً ميدانياً، تحدث مع «الأخبار» عن بعض مشاهداته، فذكر أنه رأى بعينه فتى عمره 16 عاماً توفي داخل أحد المستشفيات في الجنوب، وذلك بعد إصابته بجرح في رأسه جرّاء حادث سير، وامتناّع العاملين في المستشفى عن معالجته قبل توفير مبلغ 3000 دولار أميركي. يقول المسعف: «لم تكن عائلة الفتى تملك هذا المبلغ، فتوفي على سريره في الطوارئ، والحمد لله أنه لم يكن واعياً ليدرك أن قيمة حياته كانت تساوي 3000 دولار فقط». حادثة أخرى يرويها المسعف، فيتذكر أنه قبل أسابيع نقل مع زملائه رجلاً عمره 45 عاماً إلى المستشفى في حالة طارئة، إثر إصابته بعدة جلطات دموية. تبيّن أنه بحاجة إلى عملية جراحية فوراً، ولكن تكلفتها تبلغ عشرة آلاف دولار. لم يكن في حوزة ذوي المريض مثل هذا المبلغ، اتصلوا بالمستشفيات القريبة للاستفسار عمّا إذا كان بالإمكان إجراء العملية الجراحية، على أن يُدفع المبلغ لاحقاً، ولكن لم يقبل أي من تلك المستشفيات بذلك. قصد الأهل إحدى المرجعيات السياسية «المشهورة بأعمالها الخيرية»، لكن هذه الجهة عندما عرفت أن عائلة المريض من طائفة أخرى، قالت لهم «اقصدوا جماعتكم بلكي هني بساعدوكم»، مات المريض على باب المستشفى.