لم تنته عملية إتلاف الحشيشة في البقاع بعد، ففي مثل هذا الوقت من كل عام تتحول بعلبك ـــ الهرمل إلى بقعة جغرافية مثيرة للجدل، ذلك أن محاربة زراعة الحشيشة تتواصل من جانب القوى الأمنية، في ظل إصرار المزارعين على زراعتها موسماً بعد موسم، والدولة تتجاهل منذ 18 عاماً تأمين خطة للزراعات البديلة
البقاع ــ رامح حمية
انتهت حملة إتلاف حقول الحشيشة في البقاع الشمالي، لم تنته. فعملية الإتلاف التي ما لبثت أن توقفت منتصف الأسبوع الماضي، حتى عادت القوى الأمنية لإتلاف حقول في اليمونة وبوداي وفلاوي. فقد تبين بنتيجة التحريات التي قامت بها الأجهزة الأمنية أن بعض الحقول التي أُتلفت سابقاً سعى أصحابها إلى إعادة ريّها بالمياه، الأمر الذي سمح للنبتة بالنمو من جديد، وبالتالي استدعى يوم أول من أمس (الاثنين)، عودة القوى الأمنية والعمل على «تنظيف الحقول من الحشيشة»، وذلك بحسب ما أكد مسؤول أمني رفيع في اتصال مع «الأخبار»، حيث لفت إلى أن العملية تقتصر حالياً على «تنظيف بعض الحقول من جهة، وإتلاف بعضها الآخر الذي لم يُكتشف سابقاً، كما في بوداي وفلاوي»، حيث اكتُشف بعض الحقول بين البلديتين المذكورتين، لم يجر إتلافهما بداية الحملة.
وعليه، سواء انتهت الحملة أم لم تنته، فزراعة القنب الهندي ستبقى الجريمة التي لم توفر الدولة لمزارعي البقاع الشمالي بديلاً منها. فالدولة «نائمة أو على الأقل غير معنية» بتوفير بديل من زراعتها، فالبقاع «بالنسبة لهم لا يمثّل الضحية، بل هو دائماً عبارة عن مجموع استثمارات قطاع المخدرات والكميات التي ينتجها»، متجاهلين ذلك المزارع الذي يزرع فلا يحصد إلا الخسائر والديون، «وكأن الأرض قد تآمرت عليه مع الدولة». بهذه الكلمات يختصر «أبو علي»، من «مصطبة» منزله المطل على حقل الحشيشة الذي أُتلف منذ أكثر من أسبوع، حال البقاع ومزارعيه مع الدولة. إلى جانبه، يجلس مزارعا حشيشة أتلفت حقولهما أيضاً. هنا لا شيء يوحي بأجواء «الكيف» والنشوة، بل ثمة وجوه أهلكتها أشعة الشمس، ومنازل تحلّق حولها الفقر وبعض الأشجار التي لم تثمر هذا العام. يدرك «أبو علي» أنه يخالف القانون بزراعته الحشيشة، لكنه يعتبر أن الدولة والحكومات التي تعاقبت منذ عام 1994 «تخلت عنا كمزارعين وحتى عن القطاع الزراعي بأكمله في البقاع»، مشيراً إلى أن المزارعين التزموا قرار منع زراعة الممنوعات، وبدأوا التفاعل مع مشروع الزراعات البديلة، لكنهم فوجئوا بعد فترة قصيرة بتوقفه غير المبرر، ولتبدأ الدولة من بعدها والأمم المتحدة سياسة الوعود الواهية بالسعي لتأمين الزراعات البديلة، «وحتى اليوم لم يأت البديل، وسؤالي أنا كيف بدي عيش أنا وأولادي؟ من زراعة القمح والبطاطا شو مش سامعين بمقولة ما مت ما شفت مين مات؟»، موضحاً أن زراعة الحشيشة من الزراعات الرابحة والفرق كبير بينها وبين غيرها من الزراعات، فدونم القمح الذي يعطي 50 دولاراً يقابله دونم الحشيشة الذي يعطي 1000$.
يتدخل محمد (مزارع حشيشة آخر)، ليشير إلى أن الخسائر التي تعرّض لها منذ عامين في زراعة البطاطا هي التي دفعته «مجبراً» للعودة إلى زراعة الحشيشة، قائلاً: «مش أحلى ما بيع بيتي وأرضي وأطلب من فلان وعلتان، فحين ترجح كفة زراعة حشيشة الكيف بمعدل كل عشرة أطنان من البطاطا يقابلها ثلاثة أرباع «هقة» الحشيشة (الهقة عبارة عن ست أوقيات وربع أوقية)، ففي ذلك فرق كبير لا بد لمسؤولي الدولة أن ينظروا إليها نظرة أكثر موضوعية!».
وتعتبر الحشيشة من الزراعات التي لا تحتاج لكثير من العناء في طريقة زراعتها، حيث تقتصر بحسب رأيهم على كيلو من «القنبز» بسعر ألفي ليرة، وعدانين من المياه فقط، مشددين على عدم حاجتها لأدوية وأسمدة ولا حتى لحماية من احتكار التجار، أو تصريف الإنتاج، فالمزارع ينتهي عمله عند هذا الحد، ليأتي من بعده دور التاجر الذي يتولى قصّها ومعالجتها.
الحسرة على الموسم بدت واضحة على ملامح وجوه مزارعي الحشيشة الذين أتلفت حقولهم أخيراً، فالمواسم جميعها «راحت هيدي السنة»، في إشارة إلى أن غالبية الزراعات البقاعية لهذا العام أصيبت بانتكاسة كبيرة جراء التغير المناخي، سواء في القمح أو البطاطا أو الأشجار المثمرة، وبالتالي فإن من كان من مزارعي القنب الهندي يستند إلى زراعات أخرى كانت خسارته قاسية جداً. «بيعوّض الله.. مارح نموت من الجوع..ربك بيسّرها»، يقول «أبو علي»، الذي أشار إلى أنه سيواصل زراعة الحشيشة وإن أُتلفت «لأنها الزراعة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها»، مؤكداً إصراره على «المغامرة» بزراعتها موسماً بعد موسم، موجهاً دعوة إلى كل مزارعي البقاع بزراعة حشيشة الكيف، وذلك لتوافر القناعة لديه بأن «الدولة ستبقى تتجاهل المزارعين وتتغاضى عن تأمين البديل، والدليل على ذلك مرور 18 سنة وبعدنا محلنا، فلو خصصت الأموال التي صرفتها على حملات الإتلاف لكان برنامج الزراعات البديلة قد انتهى منذ زمن».
أما عن مواجهة القوى الأمنية، فقد أكد أن تلك الطريقة كانت للضغط فقط، «ونحنا ما منقوص على أولادنا»، وحادثة إطلاق النار منذ ثلاثة أعوام، كانت بعد حرب تموز، وجاءت نتيجة توجه الدولة مباشرة تجاه مزارعي الحشيشة، في الوقت الذي كانت فيه الأضرار التي لحقت بهم قاسية، والحديث الذي جرى عن أن إطلاق النار حصل نتيجة عدم وجود الجيش مع القوى الأمنية حينها، هو كلام عار من الصحة، «كلهم أولادنا»، والإثبات أن الجيش لم يشارك في عملية الإتلاف هذا العام، وعلى الرغم من ذلك لم يطلق أحد طلقة واحدة بل كان الجميع متعاون، وابتعدوا عن حقولهم.
جعبة مزارعي الحشيشة يبدو أنها تحوي حلولاً من الممكن الاعتماد عليها بديلاً من الزراعات البديلة وأكلافها، فقد لفت «أبو علي» إلى فكرة «تنظيم» زراعة الحشيشة وفق رخص قانونية بأسماء المزارعين الذين يبغون زراعتها. هي أشبه بدراسة يشير إليها، وأبرز ما فيها أن الدولة تستلم الإنتاج من المزارعين كما في زراعة التبغ وتصدّره إلى دول مصنّعة له، وإما العمل على تصنيعه محلياً كمخدر صيدلي، ومن ثم يمكن أن تستعمل ساق النبتة بعد نزع الأوراق عنها، كنوع من «الليف المتين» حيث يمكن استخدامه في صنع الألبسة. هنا يتدخل محمد ليقول ساخراً: «بكرا إذا صار في رخص بياخدوها النواب والوزراء وأقاربهم محاصصة، ونحنا ما بيطلعلنا شي».
عملية الإتلاف لحقول الحشيشة التي تنفذها القوى الأمنية دون أية مواجهات تذكر مع المزارعين، بحسب ما أكد مسؤول أمني لـ«الأخبار»، وهي كانت على محورين أساسيين، الأول في بوداي حيث أُتلف ما يقارب 500 دونم، وهي ذات المساحة التي أتلفت في رأس بعلبك، وجرود العاقورة، أما المحور الثاني فكان في جرود الهرمل حيث كانت المساحات الأكبر، وليصل عدد المساحات التي أُتلفت إلى 11 ألف دونم.
أبو عبده (اسم مستعار) مزارع حشيشة لم يستغرب وجود مساحات شاسعة مزروعة بالحشيشة، «الناس بدها تتنفس وتربي عيالها ما في شي عم يمشي»، ويتابع: «وقت اللي بتوفر الدولة زراعة منقدر نربح منها، عهد مني إنسى كيف بتنزرع الحشيشة». القوى الأمنية عملت على أتلاف ما يقارب السبعين دونماً من حشيشة الكيف لـ«أبو عبده»، لكنه أكد أن «كم دونم زمطوا» من عملية التلف لأنهم لم يعثروا عليها، موضحاً أن ما بقي «بيساعدوا على توفير بعض متطلبات فصل الشتا»، يقول ضاحكاً.


الحل مشروع سدّ نهر العاصي؟

يدافع المزارع عن فكرة زراعته للحشيشة باستياء، متسائلاً «شو عملتلنا الدولة من وقت اللي منعت زراعتها.. منجوع أنا وأولادي بانتظار وعودها عن البديل وكرمال أميركا والأمم المتحدة تبقى رضيانة.. ليش باقي الزراعات ماشية أمورها تمام ونحنا حابين نخالف القانون؟». لكنه يؤكد أن ثمة زراعات ثبت نجاحها بديلاً لزراعة القنب الهندي، وهي أشجار الجوز، لكن المشكلة بحسب رأيه تكمن في أنها ناجحة فقط بالقرب من مجرى نهر العاصي، وفيما لو ابتعدت عن المياه فلن تنجح، ومن هنا تقصير الدولة في عدم إنجاز مشروع سد العاصي، الذي يعود على المنطقة إثرها بالخير. وعلى الرغم من أنها لم تمطر في شهري آذار ونيسان إلا أن «الحشيشة ما بعمرها بتخسّر مع المزارع»، لأنها من الزراعات القوية التي تتحمل دون حاجتها لأي أدوية أو أسمدة باستثناء الكرم عليها بالمياه، فإذا أخذت النبتة حصتها الكافية من المياه فستعطي إنتاجاً وافراً ومميزاً يزيد من سعر «الهقة»، مشدداً على أن الدولة «فيما لو سمحت بزراعة الحشيشة «سنتين تلاتة»، أنا كفيل الدولة تسدد ديونها».