رضوان مرتضىهنا رجالٌ يفترشون البلاط، يسندون ظهورهم الى الجهة اليمنى من الرواق. يحملون أوراقاً بيضاء وصفراء في أيديهم. إنها محاضر الضبط المحرّرة بحقهم على خلفية مخالفات سير. لا يزال هناك المزيد منهم، يأتي آخرون مسرعين من الخارج، يودّون لو يُنهون معاملاتهم بسرعة ليرجعوا الى أعمالهم، لكنهم يعلقون في زحمة الانتظار التي يطول صفّها في الطبقة الأولى من قصر العدل في بعبدا. في القصر نفسه، حوّل بعض المنتظرين محاضر الضبط الى مراوح ورقية ليحاربوا بها ارتفاع الحرارة في ذلك الممر، فيما اختار آخرون أن يُحدّقوا بها لعلّهم يتغلّبون بذلك على ضجر الانتظار. إنهم ينتظرون وصول القاضي حتى يوقّع أوراق فك الحجز، لكن القاضي لم يأت بعد، بل لم يأت منذ يوم الخميس بحسب أحد هؤلاء المنتظرين.
طلب القاضي الناطور من المواطنين المتضرّرين التقدم بشكوى أمام التفتيش القضائي
يُقدّر عدد المتجمّعين في ذلك الرواق بنحو عشرين شخصاً، يقولون إنهم دفعوا ما عليهم من غرامات مخالفات السير، لكنهم لم يحصلوا على توقيع القاضي، الذي يأتي بمثابة صكّ البراءة كي يستعيدوا ما احتُجز من ممتلكاتهم. تقترب من هؤلاء محاولاً الاستفسار عن أمد انتظارهم ومخالفاتهم، وما إن تُعرّف عن نفسك بأنك صحافي، حتى يُفرغ هؤلاء ما يعتمل داخل صدورهم من غضب. يتحدّث بعض منهم عن أعماله التي تعطّلت لعدة أيام نتيجة مخالفة سير ارتكبها لكنه دفع ثمنها دون أن تزاح عن كاهله، فيما يحكي آخرون عن تعطيل دروسهم الجامعية في موسم الصيف لسببين: حجز دراجاتهم التي يستقلونها للذهاب الى الجامعة أولاً، ثم انشغالهم بدفع الغرامة وفك حجز درّاجاتهم الذي طال مع بعضهم ليصل الى أربعة أيام. يستفيض هؤلاء في إظهار الظلم اللاحق بهم، يعترفون بأنهم خالفوا قانون السير، لكنهم يستفسرون عن تسمية ما يحصل معهم: «ألا يُعدّ تأخّر القاضي عن القيام بواجبه مخالفة قانونية». الحال في قصر العدل الكائن في بعبدا لا تختلف كثيراً عن مثيله الموجود في بيروت، إلّا أنّ أعداد المخالفين أقل من تلك الموجودة في بعبدا. يدخل هؤلاء الى قلم محكمة السير لإنهاء معاملاتهم، بعضهم يخطو خطوات مترددة، يحسب لسؤاله ألف حساب بعدما مرّ بنظره على ورقة معلّقة كُتب عليها: «هذا قلم محكمة لا مكتب للاستعلامات». يتغلّب أحدهم على تردده ليسأل رئيس القلم عن الأوراق اللازم إحضارها، فيطلب منه الأخير الصمت بانتظار مجيء دوره حتى يستطيع إجابته. طَلَبُ رئيس القلم يأتي حازماً فيقطع الطريق على طرح الآخرين لأيّ سؤال. تمرّ لحظات ينشغل خلالها رئيس القلم بملء إحدى الأوراق الموجودة أمامه، لكن دخول أحد الشبّان ليسأل إن كان القاضي قد وقّع فك حجز درّاجته يقطع عليه انشغاله، فيُخبره بأن القاضي لم يأت بعد. يستغرب الشاب جوابه فيجيبه بانفعال: «إني أنتظر منذ يوم السبت ودرّاجتي محجوزة». انفعال الشاب يقضي عليه انفعال رئيس القلم، الذي يصرخ طالباً من الجميع مغادرة مكتبه بطريقة فظّة، يُتبعها بعبارة: «ألا يكفي أنكم مخالفون، بدكن تعلمونا شغلنا كمان». يخرج الجميع من مكتب رئيس القلم، لكن الشاب المنفعل يأبى الخروج مصرّاً على الموظّف الاتصال بالقاضي المسؤول كي يعرف موعد قدومه. يُخبره رئيس القلم بأن يذهب ويعود بعد ساعتين فقد يأتي القاضي، يرفض الأخير متذرّعاً بالقول: «عملتوا فيي هيك السبت وما إجا القاضي». يرضخ رئيس القلم تحت إصرار الشاب المنفعل ويتّصل بالقاضي الذي يجيبه بأنه لن يأتي اليوم، يغلق المتّصل السمّاعة قبل أن يطلب من الشبّان المتجمّعين الحضور غداً «بعد الساعة الحادية عشرة كي يكون القاضي موجوداً». ينتهي يوم طويل في قصر عدل بيروت ليبدأ اليوم التالي، يقصد أحد المخالفين، الذي كان موجوداً في اليوم السابق مكتب رئيس قلم محكمة السير، فيخبره أنّ عليه الذهاب إلى قصر عدل بعبدا لأنّ مكان الحجز ليس في نطاق دائرته، علماً أن رئيس القلم نفسه هو الذي أخبر الشاب المخالف بأنه في بيروت. يحتجّ الشاب على رئيس القلم فيجيبه الأخير بأن «الحق على الشرطي الذي لا يستعمل ورق كربون لتعليم محضر الضبط». الكلام عن تغيّب القضاة المناوبين في قصري عدل بيروت وبعبدا يستغربه المدير العام لوزارة العدل القاضي عمر الناطور، إذ يرى أنّ الأمر غير مبرّر من هؤلاء لأنهم يقصّرون في أداء واجباتهم. من هذا المنطلق، يدعو المدير العام لوزارة العدل المواطنين المتضررين من تأخّر إنجاز معاملاتهم الى التقدّم بشكاوى لدى التفتيش القضائي لمحاسبة المقصّرين. وينطلق الرئيس الناطور من مقولة إنّ القضاة هم للناس وليسوا على الناس ليلفت الى أنّ أهم واجباتهم هو خدمة الناس. كذلك يشير الرئيس الناطور الى أن تعطيل الناس عن أعمالهم لعدة أيام لظرف خارج عن إرادتهم بسبب تغيّب أحد القضاة، يستلزم من القاضي تحمّل مسؤوليته والخضوع للمحاسبة في حال التقصير.