كان الناس فيما مضى ينتظرون المسحراتي وطبلته، وقد يمضون نهارهم عطاشى وجوعى إذا ما خذلهم أو تخلّف عن موعده. وحتى اليوم، ما زال «التسحير» عادة يتمسك بها الناس، رغم أنهم يسهرون في الليل، ويمضون أوقاتهم في المقاهي والمطاعم، أو متسمّرين أمام الفضائيات في المنازل لمتابعة الحلقات المعادة من المسلسلات الرمضانية التي قد تفوتهم خلال النهار
منهال الأمين
مرت الليالي الأولى من رمضان بهدوء لم تعتده الضاحية في مثل هذا الشهر. لم يخرج «المسحّرون» على أنواعهم إلى الطرق بعد انتصاف الليل لتنبيه النائمين، إن وجد بعضهم في ظل أزمة الكهرباء الخانقة، لموعد سحور يتقوون به على يوم صيفي طويل يزيد عن 16 ساعة صيام. فهؤلاء على ما يبدو يتمهّلون في الأيام الأولى حتى «تاخذ الناس على الجو» كما يعبر أيمن جردي، الذي يرى أن التلوث السمعي الليلي، الذي تشهده العاصمة وضاحيتها الجنوبية «لا يوقظ فقط النائمين حتى يوحّدوا الدايم، بل هو كفيل بسلب النوم من عيونهم أيضاً». في الليالي اللاحقة لم يخلف المسحراتية موعدهم الذي لم يضربه معهم أحد، كما يقول شادي رمال من سكان حارة حريك، الذي يروي كيف هبت ابنته الصغرى (6 سنوات) من نومها مذعورة من ضرب طبول تحت شرفة منزله في الطابق الأول، ليكتشف أن شابين تحت العشرين، كانا مصدر هذه الأصوات، ولذا فإنه في اليوم التالي «كمن» لهما ليبدي انزعاجه مما يفعلان، فوعده الشابان «بمفاجأة سارة» في الأيام المقبلة! وبما أن آخر ما يحتاجه رمّال، كما قال، أن يوقظه أحد على السحور، فهو يرى إن «المسحّر» أضحى جزءًا من فولكلور رمضاني عفا عليه الزمن. يوافقه الرأي رئيس اتحاد بلديات الضاحية محمد سعيد الخنسا، الداعي لإعادة النظر في «هذه العادات»، لا سيما مع تقدم التكنولوجيا، ليسأل: «من لا يستخدم اليوم تقنية التنبيه في هاتفه الموضوع تحت الوسادة حتى ينتظر من يوقظه بالطبلة والجرس؟». ويؤكد الخنسا أن بلديات المنطقة لا تمنع هذا الأمر مع الاعتراف بإزعاجه «بسبب تمسك البعض بهذا النشاط حفاظًا على طابعه التراثي». لكن التلوث السمعي الليلي في ضاحية لا تنام، لا يتوقف عند طبول المسحراتية. فهي تبدأ بفوارس الدراجات النارية الشاردة واستعراضاتها على الطرق، والتي قال أحد ضباط قوى الأمن الداخلي لـ«الأخبار» إن عناصر الدرك لا يستطيعون «ملاحقة سائقيها وإيقافهم حتى لا نسبب إيذاءهم»، ولا تنتهي بسيارت الإسعاف التي تطلق العنان لأبواقها بعد منتصف الليل، برغم خلو الطرق من أية عوائق. ويتهم بعض العاملين في الدفاع المدني الجهات الخاصة التي تتبع لها سيارات الإسعاف هذه، بتوخي «لفت الأنظار إلى نشاطها الزائد، وبعضها قد يكون خاليًا، ويسير بسرعة جنونية مطلقًا صفارات الإنذار»! أضف الى ذلك أصوات المفرقعات النارية و«الأسلحة الرشاشة» التي يلهو بها صغار القوم وكبارهم، بسبب عرس أو نجاح أو إطلالة إعلامية أو «إشكال». وهي تكفي، ليسهر الكبار و«يتنقوز» الصغار على مدار الساعة.
الشرع حرم رفع الصوت بالقرآن إذا أزعج جيران المسجد
وفيما يتطوّع البعض لمهمة «التسحير» مستخدمين الجرس والطبلة وغيرهما، فإن بعض الأحزاب وفرق الكشافة في الضاحية «ابتدع» أساليب جديدة. ففي الغبيري مثلاً، هناك على التوالي أكثر من مسحّراتي، ولكل طريقته. بعد الواحدة فجرًا يبدأ العمل. تحضر بداية فرقة موسيقية تابعة لكشافة الرسالة، تقتصر عدتها على الطنابير «فمن غير اللائق استعمال الصنوج والطبل نظرًا للإزعاج الذي تحدثه هاتان الآلتان الموسيقيتان» بحسب مفوض بيروت في كشافة الرسالة علي عباس. ولكن الملاحظ أن الفرقة تمر بكامل عدتها، إضافة إلى بعض أدوات النفخ، فتعزف عددًا من المارشات العسكرية، فضلاً عن مقاطع رمضانية. يلي ذلك سيارة تحمل علمي حركة أمل وكشافة الرسالة، مخترقة بتمهل الشوارع الرئيسية وصولاً إلى أبعد زقاق. وهي مجهزة عادة بمكبرات للصوت «تيصير الصوت يودي»، فتبث الأناشيد الدينية وغير الدينية التي تمجّد الجهة التي تقف وراء السيارة. وفي حي المصبغة في الشياح، كان الناس في السابق، على موعد مع ثلاث جولات «تسحيرية»: الأولى لكشافة الرسالة، والثانية لكشافة المهدي، أما الثالثة فلشبان الحي «الأصليين»، الذين يرغبون في اختتام تسكّعهم طيلة الليل، بفضيلة ما تقرّبهم للناس زلفى. فيحملون ما تيسر لهم من أدوات صوتية: تنك وأباريق بلاستيكية وأحيانًا دربكة، ويجولون في أزقة الحي، في جوقة أين منها فرق العراضة الدمشقية. ويؤكد أحد سكّان الحي أن هؤلاء الشبان ليسوا من الصائمين ولا من القائمين، بل هم «زعران الحي وأولاد الشارع»، و«مآثرهم» حاضرة في أذهان الناس. حتى أن بعضهم كان يردد مع كل طرقة على الإبريق البلاستيكي بين يديه: «يا دايم وحّد النايم»! أما حزب الله فإنه لم يعد «يسحّر» منذ سنوات خلت، بحسب المسؤول الإعلامي في منطقة بيروت، غسان درويش. كذلك بالنسبة لكشافة المهدي التابعة للحزب، فتُرك المجال مفتوحًا للمبادرات الفردية، كما هي الحال في حارة حريك، شارع سليم، حيث اعتادت مجموعة من الفتيان، تطوّعًا، إعداد العدة «للتسحير»، فيجهزون أنفسهم بالثياب التقليدية والطرابيش، ويطوفون منشدين الأناشيد الرمضانية. ويقول أحد المشرفين إنهم يلقون تشجيع أهالي الشارع الذين يتبرعون لتأمين لوازم هذه الشعائر، مؤكدًا أن المشاركين لا يتقاضون أي أجر.
ولا سبب محدداً لتوقف كشافة المهدي، كما يوضح بعض الكشفيين. الإزعاج مثلاً؟ «ربما، ولكن ليس هو السبب»! ويرى عباس أن «التسحير حاجة لكبار السن، وتبين لنا ذلك من خلال استطلاع أجرته كشافة الرسالة في بيروت والضاحية العام الماضي قبل رمضان بمدة». ولكن لأبي رامز كركي رأي مختلف في الأمر، فهو يرى في الأمر تسلية يقدم عليها هؤلاء الشبان على سبيل الاستعراض «فالمنافسة الحزبية على أشدها رغم الوفاق العام». و«لا تسحير ولا من يسحرون» برأي أم عماد فواز «لأنه غير معروف ليلنا من نهارنا، مفرقعات ودراجات نارية وسيارات وأولاد تلعب، وخصوصًا أن المدارس لم تفتح أبوابها بعد، يعني نتمنى أن ننام ويأتي من يوقظنا للسحور ساعتها». أما فريال شامي فإنها تشجّع على استمرار المسحراتي بأي طريقة كانت «للحفاظ على رونق الشهر الفضيل وتقاليده، وثانيًا، لأن كثراً ينتظرون مروره وإلا فاتهم السحور».
ويرى الشيخ حسين الخشن، مدير الحوزات التابعة للعلامة الراحل محمد حسين فضل الله، أن موضوع «التسحير، ما هو إلا فعل نابع من التقاليد، ولا ملزم له شرعاً»، مرجّحاً «ألا يكون مألوفًا في عهود الإسلام الأولى»، ولذا فهو يلفت إلى استحباب نهوض الصائم إلى السحور، ولكن لم يرد الحث على إيقاظ الناس للتسحّر». ويعزو انتشار الظاهرة على مدى قرون إلى «الحاجة العملية، في ظل عدم توافر الوسائل الحديثة للتنبيه، وهو أمر محبب شرعًا إذا كان دافعه الرغبة في المساعدة على أداء الطاعات في هذا الشهر الفضيل». ويحذر الخشن من أن تكون بعض ممارسات المسحّرين «تؤدي إلى إزعاج الناس، لا سيما المرضى منهم وكبار السن، فإن الأمر ينقلب إلى معصية، إذ إن المشرّع الإسلامي حرّم رفع الصوت حتى بالقرآن والأذان إذا ما أزعج جيران المسجد». وأشار إلى ظاهرة خطيرة تغزو بعض المساجد، حيث تستخدم مكبرات الصوت فيها لأداء إعلامي فيه الكثير من الإزعاج «وهذا أمر فيه إشكال كبير من الناحية الشرعية العبادية».


الخيط الأبيض من الأسود

يروي بعض كبار السن في القرى الجنوبية، أن «المسحّراتي» سابقًا كان أحد عناصر نجاح شهر الصيام، لجهة تنبيه الصائمين من نومهم، لتناول بعض الطعام قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. لا سيما أن الناس كانت تنام باكرًا، وهناك فاصل زمني طويل بين أقصى وقت للسهرة وطلوع الفجر. وتُروى في أكثر من قرية رواية عن عدد من المسحّرين الذين تعاقبوا على هذه المهنة، وكانوا من غير المبصرين. واللافت أن هؤلاء كانوا يحفظون البيوت بدقة متناهية، فما إن يصل أحدهم بجرسه المميز، إلى منزل فلان الفلاني، حتى يبدأ بمناداته بالاسم، طالبًا من كل «نايم أن يوحّد الدايم». وينتظر المسحّراتي حلول يوم العيد بفارغ الصبر، ليجمع غلة تعبه عيدية من أهل القرية، مكافأة له على مواكبتهم طيلة الشهر، وتحمله المتاعب، حرًا صيفًا وبردًا شتاءً. إضافة إلى أن الأمر لا يخلو من خطورة التعرض لسرقة أو هجوم حيوان مفترس كانت القرى عادة ما تتعرض له في تلك الأيام. والوقت لم يكن كفيلاً بزوال عامل الخوف عند المسحّرين «الحديثين»، إذ كان أحدهم يقف على تلة مشرفة على جزء ناءٍ من إحدى القرى ويبدأ بمناداة سكانها واحدًا واحدًا، مستعينًا على وحشة الليل بتقليد أصوات الضباع تارة والذئاب أخرى.