تلك النظرة في عينيه، فيما تربّت يداه على إطارات كرسيّه المدولب، لا يمكن أن تنبئ إلا بتحدي المصاعب. تحدٍ دفع بالشاب لاستعادة استقلاليته الجسدية باختراعات «شغل يده» ليس أقلها «أرز 5» و«أرز 6»
علي السقا
... لولا لطف الله، لكان من الممكن لأنفاس فادي الصايغ أن تتوقف نهائياً في إحدى ليالي عام 1982. ابن العشرين ربيعاً، لم يحالفه الحظ أن تنتهي زيارة مسائية قام بها برفقة صحبه لأحد البيوت بسلام. سقط من الشرفة أرضاً «ولم أعد أشعر بجسدي»، يقول فادي. كانت تلك الحادثة حداً فاصلاً بين الحاضر والمستقبل. لذاكرة ذلك الجسد الشغوف بأداء أدوار التطوع، تارة في الكشاف وطوراً في الدفاع المدني. المهمة الأقرب آنذاك إلى العمل الفدائي في حمأة الحرب الأهلية وجنون ميليشياتها.
أسوأ ما عاشه فادي شعوره بأنه أصبح أسير الآخرين، بخسارته استقلاليته الجسدية حتى أبسط الأمور، كانتعال الحذاء أو الجوارب، غسل اليدين، النهوض من السرير إلى الحمام.
كان دخوله إلى اتحاد المقعدين اللبنانيين عام 1990 تاريخاً مهماً بالنسبة له. «تعرفت إلى مجموعة من المقعدين النشطين الذين يقومون بأمور عدة بمفردهم». لكن تنقلاته التي بقيت بعد شرائه سيارة مرتبطة بمساعدة الآخرين، أشعرته بوجوب إيجاد حلّ كفيل بتسهيل حركته، والأهم، تخفيف عبء حمله من مكان إلى آخر عن كاهل أهله. كان فادي قد أنهى دراسة السنة الأولى في الرياضيات محاولة منه لشق طريقه إلى الهندسة عندما وقعت له الحادثة. لكن بالإمكان القول إنه كان مهندساً بالفطرة!
أثاث بيته من نوع مختلف: كل شيء فيه مدولب ومتحرك، حتى الجدران
يقول: «ذات مساء، كنت ممدداً جانب السرير بانتظار من سيرفعني عندما لمعت فكرة في رأسي. تقدمت والدتي نحوي وسألتني: بم أنت شارد؟ فأجبتها: وجدت طريقة تتيح لي الانتقال من السرير وإليه بمفردي. عندها قالت أمي: إن شاء الله، قولك بتزبط؟».
توجه صباح اليوم التالي إلى المدينة الصناعية. طلب إلى صاحب محل لبيع الأدوات الزراعية مولّداً. ثم كلفّ حداداً صنع جسر حديدي يتلاءم وقوة المولّد وحجمه. بإضافة الأربطة، استطاع فادي صنع حاملة آلية ترفعه من كرسيه إلى السرير وبالعكس. «عندما ضغطت على الزرّ، أرتفع من الكرسي ثم أهبط بروية فوق السرير، كانت المرة الأولى بعد مضيّ خمسة عشر عاماً، التي أشعر فيها بأن جسدي أضحى ملكي. كان خفيفاً. لم يعد هناك أيدٍ تنسل تحت إبطي وأخرى تمسك بقدمي». كانت هذه المحاولة الناجحة باكورة الابتكارات اللاحقة لفادي. طوّر أسلوباً آلياً يسمح له بانتعال الحذاء ولبس البنطال والملابس الداخلية. لم يبادره أصحابه المقعدون سوى بابتسامات خفيفة وخجلة من الاقتراح الذي ألقاه أمامهم ذات يوم «سأجد طريقة لدخول السيارة والخروج منها بمفردي!».
بعدما وضع التصميم لم يستلزم المشروع سوى مولد صغير وقطع حديدية مستعملة، إضافة إلى سيارة بهيكل مناسب. تمت المحاولة بنجاح. «دخلت السيارة وطُوي الكرسي عبر آلتين لا يصل ثمن قطعهما إلى ما قد تدفعه أجراً لممرض! إنها اللحظة التي أحسست فيها كأني عاودت المشي، أخرج وأعود متى شئت». أبدى الجميع إعجابهم بما فعله فادي، وراح بعضهم يطلقون على اختراعاته هذه اسم «أرز5» ثم «أرز 6»، تيمناً بصاروخ «أرز 3» الذي صنعه الجيش اللبناني. كانت ملاحظتهم أن الصعود إلى السيارة والنزول منها بهذه الطريقة يستهلكان الكثير من الوقت. لم يبادرهم فادي سوى بجملته الصريحة «كل الوقت الذي نهدره مكبلين في مكاننا لا يساوي لحظة حرية».
كل الوقت الذي نهدره مكبلين في مكاننا لا يساوي لحظة حرية
لم يلتفت فادي إلى الكلام الذي يثبط عزيمته. مشروعه الأكبر شارف على الانتهاء. إنه بيته الخاص الذي عندما يسكنه لن يكون في حاجة إلى عون. سيكون بمفرده قادراً على العيش. حتى رفاقه المقعدون لن يشعروا عند دخولهم هذا البيت بأنهم مقعدون. فأثاث بيته لا يشبه ما تجده عادة في البيوت الأخرى. إنه أثاث من نوع مختلف، كل شيء فيه مدولب ومتحرك، حتى الجدران. من المغسلة التي تصعد وتهبط، إلى الآلة التي تدور حاملة الطعام من «الغاز» مباشرة إلى طاولة المعيشة. «الفيترين» المقسم على شكل أربع مراوح خشبية مجوفة، يدور بحركة خفيفة من اليد، فيستطيع أن يتناول منها ما يشاء. ثم السرير والكراسي المتحركة، وصولاً إلى خزانة الألبسة التي تخرج الثياب وتدخلها بحركة آلية بسيطة. حتى علبة القواطع الكهربائية متحركة. لم يكن يتطلب حلم فادي هذا سوى أن يتخيل التصاميم، ثم يمليها بالمصطلحات الهندسية على المهندس. كانت ابتكاراته فاتحة لمساعدة غيره من المقعدين، ممن تملكهم اليأس بعد إصابتهم بالشلل. كان عمله دعوة إلى تجديد ثقة المقعدين بأنفسهم، أو أقله تحدياً لفكرة «تفوق الأجنبي» التي يعرب عنها زواره بقولهم شبه مقتنعين بأنه لا بد أن يكون ثمة مهندس أجنبي صنع له كل هذا.
ثمانية وعشرون عاماً انقضت على إصابة فادي بالشلل الرباعي. كانت سنوات ملؤها العزم والمثابرة. استطاع ذلك الجالس في كرسيّه المدولب أن يمنح الآخرين جرعات حياة، مقعدين وغير مقعدين. أن يخالف ما هو بديهي ربما. أن يمشي دون قدمين!


«المرأة ملكة وليست خادمة»

تعرف فادي بإناث كثر بعد إصابته بالشلل. لكنه لم يقبل بأن يتزوج ليحظى بامرأة «تخدمه» كما كان يصر عليه البعض. ينتظر الأنثى التي يبادلها المشاعر الصادقة. وهي عند دخولها بيته الذي بات شبه مؤهل لاستقبالها، لن تكون إلا «ملكة، امرأتي لن تكون بصحبتي أقل من ملكة».