بات لكورنيش بيروت البحري من ينافسه في الليل. المنافس ليس بعيداً، لكنّه لم يعتد أن يمتلئ بالزوّار. حرم الهاربون من انقطاع الكهرباء والعمّال الفقراء، البحر المحاذي للكورنيش، من هدوئه الليلي. يومياً، ومنذ بداية شهر رمضان، يقصد المئات شاطئ عين المريسة للسباحة، ويبقون حتى ساعات منتصف الليل
محمد محسن
البحر معتم، لكنّه يعجّ بهواة السباحة. «السبّيحة» يعانقون الماء، وينشرون فرحهم مع كلّ «شكّة» ولو كانت هوجاء. لن يصعب على رسام محترف نقل ضجة البحر في منطقة «عين المريسة»، وخصوصاً في فترات الليل. اللوحة كالتالي: خلفية سوداء، تترامى فيها أجسام السبّاحين كنقاط مضيئة، وفي أعلى اللوحة، نقاط ضوء أوضح، تصطفّ كالنوتة الموسيقية: مراكب الصيّادين. هكذا، في عين المريسة، لم تعد العتمة تفسّر كمجهول مخيف. فغياب الكهرباء شبه الدائم عن ضواحي العاصمة، جعل الظلام مرادفاً لترفيه الفقراء. عتمة البحر، أسهل من عتمة بيوتهم وحرّها. بحر بيروت الذي تحاصره الفنادق الفخمة، يتسع لفقرائها أيضاً. كلّهم لاجئون. شباب لا يملكون مالاً يدخلهم المسابح، وعمّال أجانب يوفّرون كل قرش يكسبونه. كلّهم لاجئون إلى شاطئ صخري متعرّج، لم تحسّنه بلدية العاصمة ليصبح لائقاً بزوّاره. هم فقراء متنوعون، هاربون من انقطاع الكهرباء، البحر، وحده، يضحك لهم. تجدهم على الصخور، لا يأبهون لنظرات المارة وتعليقاتهم. تحت الكورنيش، عالم جديد لسباحة الليل. الهواية لم تعد مقتصرة على الرياضيين، بل تحوّلت إلى ممارسة يومية، شجّعت البعض على تأجير الكراسي أو النراجيل هناك. منذ التاسعة مساءً تقريباً، تبدأ «وفود» زائري البحر. تحول الشاطئ إلى كورنيش ثان.
البحر دافئ في الليل ولا وقت لدينا في النهار إلا للعمل
على قاعدة «يوم إيه ويوم لأ» يصطحب ناجي منتش أسرته إلى بحر عين المريسة. تجده مع عائلات كثيرة تخلّت عن الكورنيش، ونزلت إلى البحر. أما المتنزه الجديد؟ الخط البحري الممتد بموازاة الكورنيش، وخصوصاً الصخور المحاذية لـ«عمود الجامعة». قرب الرجل الثلاثيني غاز صغير لإعداد الشاي وفحم النرجيلة، وثياب لأطفاله أيضاً. أطفال يلعبون في ماء تجمّع بين الصخور، تطفو عليه أوساخ، رماها زوّار الكورنيش المليء بمستوعبات النفايات. بدأت موضة زيارات البحر الليلية منذ الأيام الاولى لشهر رمضان، وتزامناً مع الانقطاع الحاد للتيار الكهربائي. لا تكلّفه «الرحلة الترفيهية» أكثر من 10 آلاف ليرة كأجرة للفان ذهاباً وإياباً. لا يضيق صدر منتش بأسئلة كثيرة. لماذا المجيء في الليل؟ كيف السباحة في مياه غير نظيفة في الحد الأدنى؟ بالنسبة له، لا بأس ببعض «المناعة التي يكتسبها الأولاد من السباحة في مياه مشكوك بنظافتها». مكابرة، لا يلبث منتش أن يتراجع عنها، معدداً أسباب هذا الشكل من التنزّه «الدنيا رمضان ولا يمكن السباحة في النهار لأنها من المفطرات». (ترتبط المسألة بتغطيس الرأس تحت الماء مع كامل البدن أو بدونه، وهي قضية يختلف علماء الدين في اعتبارها من مبطلات الصوم). لكن الأهم من ذلك، هو ضعف جيبه عن تسديد فاتورة يوم واحد في مسبح «ما بتطلع بأقل من 100 ألف، عالشط هون أوفر بكتير، بدا شوية انتباه زيادة بالليل» يقول. «البحر بيضحك ليه». تجول أغنية الشيخ إمام في خاطرك، وأنت تحدّث زوّاره في الليل. لكنّ البحر لم يجب عن سبب ضحكه. كان واضحاً أنه يضحك فقط. كالطفل الذي سأل والده عن الضوء البعيد، الآتي من مراكب الصيادين المتناثرة. يقول ببراءة تزين وجهه «ماذا يفعلون هناك؟ كيف يرون السمك؟ يعني السمك اللي مناكلو بالنهار بيتصيدو بالليل؟». لا ينتظر إجابة. يتلقف من يد أمّه سندويشاً صغيراً، يلتهمه بسرعة، يتسلّق صخرة بيديه الطريتين، ويصرخ «بابا، ليك ملا شكّة» ويقفز مبتسماً. قفزته ناعمة، ليست كقفزات الشبّان المترامين في غير مكان من الكورنيش. يكاد أحمد شحيتلي يقع مغشياً عليه من الضحك. ليس استهزاءً بالقفزة الخاطئة لزميله، من أعلى الكورنيش نحو البحر، بل من شيء آخر. الأساطير الشعبية حاضرة في ليل البحر. إحدى السيدات تنبّه الشبّان «الجن يسكن الماء ليلاً فلا تقفزوا بهذا الشكل وتزعجوه»! أزعجتهم كلمتها، لكنّهم لم يردوا على دعوة للقفز الجماعي «لإزعاج الجن» أطلقها أحدهم. ربما صدّقها بعضهم. في منطقة تبدو عميقة بعض الشيء، يجتمع عدد من الشبّان. ينتظرون شاباً مثلهم، يتسلّق سلّماً صدئاً، يأخذ نفساً طويلاً، ويلبي دعوات المارة للقفز. في لحظة، يتحوّل كامل كركي إلى نجم الكورنيش. من يملك 20 ألف ثمناً لدخول المسبح؟ يسأل الشاب العشريني، الآتي برفقة أصدقائه من منطقة السان سيمون الفقيرة. لا فرق عنده بين نهار البحر وليله «البحر دافئ في الليل، ولا وقت لدينا في النهار إلا للعمل». أي عمل هو الذي لا يكفي مدخوله لشاب أن يدخل مسبحاً؟ يجيب كامل بسرعة «وأي عمل هو الذي يسمح دخله للشاب أن يدخل مسبحاً؟ من وين جايي حضرتك؟». إجابة مستفزة، جعلته يعدد أعمال أصدقائه مشيراً إليهم بالإصبع: الأول ميكانيكي ويتقاضى 400 ألف ليرة، ذاك الذي يتهيّأ للقفز يعمل نادلاً ويعتمد على بقشيش الزبائن، أما ذاك الذي يرشون عليه الماء فلم يجد عملاً حتى الآن. يضيف كركي إلى ما سبق، بعض الأصدقاء المتدينين، ممن لا يذهبون إلى مسابح مختلطة حتى لو استطاعوا، يأتون إلى البحر «للسباحة الشرعية» يقول ممازحاً. دلّل تيسير الجحفي ورفاقه أنفسهم، في رحلتهم البحرية الأولى. 3 عمال سوريين وعاملان عراقيان. اشتروا نصف كيلو من المكسرات، و5 فناجين قهوة من أحد الباعة على الكورنيش. هم عيّنة من عمال أجانب كثيرون يستهويهم شاطئ بيروت. ليس أكثر من حاجة للترفيه بعد أيام من العمل الشاق. «لا يمكننا الحضور كل يوم، فالمواصلات في لبنان مكلفة» يقول تيسير. ينسحب إلى الماء هو ورفاقه، وبسرعة، يدخلون إلى مسافة بعيدة في البحر.