بين التكة والتكة... تكة. هكذا هي حال الكهرباء في أحياء حي السلم حيث تحول التيار إلى ضيف عزيز لا يزور المنازل إلا نادراًً. ولئن بات الانقطاع المتكرر روتينياً، إلا أن أحداً لم يعتد بعد على قصر المدة بين «جاءت» أي الكهرباء، و«تكت» أي «الساعة»، وهي مدة قد لا تتجاوز أحياناً الخمس دقائق
راجانا حمية
تِك. في لحظةٍ واحدة ينطفئ كل شيء: النور. التلفزيون. البراد. المكيّف.. حتى السهر. يخيّم الصمت في الغرفة الصغيرة لبعض الوقت قبل أن ينطلق صوت أحد الساهرين عالياً «تك ديجونتير المحطة».
تك الديجونتير ــــ محول الكهرباء ــــ وتكّت معه السهرة. لا مسلسلات رمضانية ولا ضوء ولا هواء مبرّداً يطفئ اللهيب. عاد الليل مصحوباً بجملة «إكسسوارات»: عتم وحرّ قاتل وانتظار ريثما يعود التيار الكهربائي.
فترة الانتظار تلك ستغيّر مسار السهر في الغرفة الوحيدة المكيفة في المنزل التي تكدس فيها الساهرون هاربين من سخونة غرف البيت الأخرى. سخونة خزّنتها الجدران الباطونية طوال النهار في شهرٍ الحرارة فيه أصلاً استثنائية. «يتفرطع» الساهرون. يهجرون الغرفة التي تبددت برودتها وبدأ الحر والرطوبة يتسللان إليها شيئاً فشيئاً. يتوزعون هنا وفقا لخريطة... النوع! فالصبايا يبقين في المنزل متزاحمات على الشرفة، فيما يلجأ الشباب الى الشارع. إلى بعض زواياه المكشوفة التي «نفذت» من تزاحم الأبنية المستطيلة. في الشارع يتوزع الشباب المهمات: قسم يذهب إلى.. الديجونتير الذي يغذّي الحي من أجل أن يرفع مقبضه، وقسم آخر يتربّص عند العداد، للتأكد من أن التيار عاد، وخصوصاً أن لا دليل غيره على وصول التيار. فكلّ الأدوات والأضواء «متكوكة» في البيت، تحسباً لعدم قدرة التيار الضعيف أصلاً على تحمل كل هذا العبء. لا يحمل قاموس الواقفين عند الديجونتير والعداد إلا كلمتين «إجت». «تكّت». وإن زادت تلك الكلمات، فلا تتعدى في معظم الأحيان سوى كلمة ثالثة «انقطعت».
إجت. لأ، تكّت. انقطعت الدولة. إجا الموتير. كان على علي، «ملك الديجونتير»، الذي اعتاد رفع المقبض كلما انقطع، أن يردّد تلك الكلمات مرة كل خمس دقائق، أي كل ما «تكت». فقس كم دقيقة تستمر السهرة على تلك الحال، وكم مرة سيعيد علي تلك الكلمات و...المشاوير. بين تكّت وإجت، يقضي علي ليله متنقلاً بين المنزل والمحوّل.
يوم. يومان. ثلاثة. الحال لم تتغيّر. لا مفرّ من التكتكة، وخصوصاً أن المحطة التي تغذي الحي الذي يقطنه علي، لم تعد قادرة على احتمال هذا الضغط من المشتركين المتزايدين يوماً بعد آخر. كل ذلك مقابل كمية محدودة من «الكيلوواط»، كانت قد حددتها الدولة سابقاً لعدد محدود من المشتركين، ولم تزد منذ ذلك الحين. ولن تزيد إلا بمرسوم أو بقرار من وزارة الطاقة والمياه. والطاقة التي تأتي من مولدات الاشتراك لا تكاد تكفي لإشعال النور وتبريد غرفة لا تعد «الأربعة بثلاثة».
يقضي علي ليله «مرسّماً»، فهو لا يجرؤ على ارتداء ثياب النوم، وإلا فسيكون مضطراً لتبديلها كل «ما تكت». يجلس مراقباً في الغرفة. لا يستطيع أحد تشغيل أية أشياء إضافية على التلفاز والمكيف والضوء. لا براد ولا ضوء في مكان آخر. فمجرد إنارة غرفة أخرى، سيكون على علي التوجه مباشرة إلى الديجونتير في الحي من دون أن ينبس ببنت شفة. في الليلة الواحدة، قد يقصد علي المحطة أكثر من 20 مرّة، وفي كل مرة ينتظر حوالى الدقيقتين إلى جانب المحطة للاطمئنان إلى أنها لن تنقطع، وهو في طريق عودته إلى المنزل.. وهو ما يحدث مراراً، إذ لا يكاد يصل إلى شرفة المنزل حتى يعود إلى الديجونتير. في إحدى المرات، قصد علي الديجونتير 30 مرّة، وفي كل مرّة كان يصادف الشخص نفسه والسؤال نفسه «شو ضايج، عم تروح وتجي بهالحي».

بدأ علي يخجل من «الميسد كول» لأحمد ليرفع مقبض الديجونتير

وفي كل مرة، كان يجيب الجواب نفسه «شو رأيك أنو المحطة حدك، ومضطر إرفعها كل ما تكت ورح تضل تشوفني؟». مرة تلو الأخرى، بدأت العلاقة تتوطد بين الشابين، إلى حين تجرأ علي على مواجهة صديق الديجونتير، قائلاً «ما دمت تعمل إلى جانب المحطة، لم لا ترفع الديجونتير كل ما تك؟». لكن، كيف سيعرف الشاب أن الديجونتير قد «تك»؟ المسألة بسيطة جداً، فالشابان تبادلا أرقام هاتفيهما، وعندما يرنّ علي لأحمد، يسارع هذا الأخير إلى رفع مقبض الديجونتير. هكذا، ولّد الديجونتير صداقة بين الشابين. لكن، رغم تلك الصداقة، إلا أن علي بدأ يخجل من مجرّد «التعليمة» على هاتف صديقه، واسمه أحمد وإجباره على ترك عمله من أجل رفع الديجونتير. لهذا السبب، فكر علي كثيراً في كيفية رد الجميل لصديقه، فلم يجد خياراً سوى أن يُرسل إلى صالون الحلاقة الذي يعمل به أحمد، صديقاً له كزبون ليحلق ويصفف شعره، تعويضاً «عن المشوار من الديجونتير وإليه».
لكن، ماذا عندما لا يكون هناك أحمد عند الديجونتير؟ ولا حتى علي في البيت؟ ربما، لن يكون أمام الساهرين إلا خيار واحد: تغيير المكان. فبدل أن تكون السهرة في الغرفة التي فيها مكيف التبريد، تنتقل إلى .. «المسبح» أمام البيت. وعندما نقول المسبح نقصد ذلك البلاستيكي منه الذي يشتريه الأهل لكي «يمرطس» أولادهم فيه في الصيف. هكذا، ينتقل كل من كان في الداخل إلى «المسبح» بثيابهم الكاملة طبعاً، وينقلون معهم «الضيافة من قهوة وشاي» إلى المياه أيضاً. هناك، يكملون سهرتهم، بانتظار عودة التيار. فإن عاد عادوا إلى غرفتهم، وإن لم يعد يطيلون بقاءهم في المسبح غير متجرئين على الخروج منه، خوفاً من الحر الذي سيلفحهم بمجرد جفاف الثياب المبللة. أما إذا دب النعاس ولم يعد هناك من مفر، فنزهة ليلية في سيارة البيت المكيّفة، كفيلة «بتدويخ» البعض استعداداً لنومٍ دون كهرباء، أو النوم في السيارة نفسها لصاحب الحظ.