أوقفت السلطات اللبنانية عشرات الأشخاص الذين اشتبه فيهم بالعمل لمصلحة إسرائيل في لبنان. وادعى القضاء على بعض منهم بينما صدرت أحكام جرّمت البعض الآخر. لكن يبدو أن النصوص القانونية تعاني بعض الشوائب التي قد تستدعي إدخال المشرّع تعديلات عاجلة
رلى عاصي
إنها حرب الجواسيس، حرب تشنّها إسرائيل على لبنان، جاعلة منه ساحة مستباحة، فعاثت به، مستثمرة بعض ضعاف النفوس، فاقدي أبسط مبادئ المسؤولية والحس الوطني. وها قد «انفرط العقد وتفرّق (بعض) العملاء». منهم من ألقي القبض عليه، ومنهم من فرّ خارج لبنان. والسؤال: لماذا هذه الظاهرة؟ كثر الحديث عن «البيئة الحاضنة» وعن الظروف الاجتماعية والأسباب الاقتصادية التي تدفع، دون أن تبرّر، البعض إلى انتهاج هذا السلوك، خيانة للوطن والمواطنين. فماذا يقول القانون في هذا المجال؟ وهل يعد حصنًا منيعًا يحول دون بقاء هؤلاء العملاء خارج إطار المساءلة والمحاسبة؟
حدّد المشرّع اللبناني صوراً متعدّدة لجرائم الخيانة، ضمن الجنايات الواقعة على أمن الدولة الخارجي، في المواد 273ــــ280 من قانون العقوبات. وقد قرّر عقوبات مشدّدة بشأنها نظراً لخطورتها على كيان الوطن واستقراره من ناحية، ومعاقبة المخلّين بالولاء له من ناحية أخرى.
وأولى صور الخيانة وردت في الفقرة الأولى من المادة 273 عقوبات حيث عاقبت بالإعدام «كل لبناني حمل السلاح على لبنان في صفوف العدو». ثم جاءت الفقرة الثالثة من المادة عينها تكمل أحكام الفقرة الأولى، فأنزلت عقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة بحق «كل لبناني تجنّد بأي صفة كانت في جيش معاد ولم ينفصل عنه قبل أي عمل عدوان ضد لبنان وإن يكن قد اكتسب بتجنيده الجنسية الأجنبية». ويتّضح من النص أن التجنيد المشار إليه لا ينحصر بصفة معينة، فقد يتجنّد الشخص كطبيب أو مهندس أو محارب أو بأي صفة أخرى، بحيث لا تنتفي مسؤوليته باختلاف صفته، ما دامت خبراته أو مؤهلاته أو خدماته موضوعة في تصرّف العدو. ومن هنا، تظهر أهمية هذه الفقرة في أنها توسّعت في مفهوم الخيانة لجهة تعدّد الصفة أو الصفات التي يمكن العميل أن ينخرط بموجبها في صفوف الجهة المعادية، بما يستتبع حكماً تعدّد الأعمال الجرمية التي يقوم بها، أي من دون أن تنحصر «بحمل السلاح». فيمكن أن تتّخذ مثلاً شكل تزويد العدو بمعلومات من خلال خرق شبكة الاتصالات، أو من خلال التقاط صور لمواقع أمنية في لبنان، أو من خلال مراقبة بعض الشخصيات البارزة، وغيرها من الممارسات التي تتنافى مع مصالح الوطن وتخدم مصلحة العدو. علاوة على ذلك، يظهر توسّع الفقرة الثالثة لجهة مفهوم التجنيد، فهو لم يعد يقتصر على جيش العدو فحسب، كما هي الحال بالنسبة للفقرة الأولى، بل تعدّاه ليشمل أي «جيش معاد» للبنان. وهذه العبارة واسعة، تحتمل التأويل، وبالتالي يجب أن تفهم على أنها تشمل، إلى جانب جيش العدو، كل جيش أو منظمة عسكرية تنشأ داخل لبنان أو خارجه، وترتكب أعمالاً عدائية ضد الوطن وتهدّد أمنه.

شوائب ونواقص

بالرغم من حرص المشرّع على ألا يترك المجال مفتوحاً أمام العملاء للتهرّب من حكم القانون والخضوع لسلطانه، إلا أنه وقع في لبس كبير. فبالعودة إلى الفقرة الثالثة يتبيّن أن العقاب يقع بحق العميل ما «لم ينفصل [عن الجيش المعادي أو جيش العدو] قبل أي عمل عدوان ضد لبنان». أي بمعنى آخر، وبالتحليل المعاكس، لا يعاقب العميل الذي التحق بجيش العدو وتعامل معه ووفر له الخدمات وعمل لمصلحته، ما دام، بعدما أقدم على كل ذلك، قد انفصل عن العدو قبل أن يشن عدواناً على لبنان، وهذا بالطبع ما لا يمكن أن يكون قد قصده المشرّع! وبالتالي، نكون أمام ثغرة في القانون، أقل ما يقال فيها إنها خطيرة.
بحيث إن من شأن النص، إذا ما طبّق على ما جاء في قانون العقوبات، أن يُبقي خارج نطاق التجريم والعقاب، العديد من العملاء الذين التحقوا بصفوف العدو، بأية صفة وأية صيغة كانت، وأمعنوا في التعامل معه، وأسهموا في الكثير من العمليات ضد لبنان، وإن لم ترقَ إلى درجة الأعمال العدوانية، ثم انفصلوا عن العدو قبل أي عمل عدواني على لبنان. وهذا ما لا ينطبق على المنطق ولا على قصد المشرّع ولا على روح القانون. فهؤلاء العملاء لا يقلّون خطورة عن غيرهم ممّن استمرّوا في التعامل مع العدو بعد ارتكابه أعمالاً عدوانية على لبنان، لا سيّما أن الانفصال قد يحصل قبل وقوع العدوان بأيام فقط أو حتى بساعات.
إن جرم الخيانة يقوم بمجرّد انتماء العميل إلى صفوف العدو، ويستوجب بالتالي العقاب عليه، من دون انتظار قيامه بحمل السلاح أو الإتيان بأي عمل من الأعمال العدوانية. وقد جاء المشرّع يؤكّد ذلك المنحى معتبراً أنه «يتم الاعتداء على أمن الدولة سواء كان الفعل المؤلّف للجريمة تاماً أو ناقصاً أو في طور المحاولة» (مادة 271 عقوبات). فالعبرة في التجريم بالنسبة لهذه الأفعال ليست في المدّة التي أمضاها العميل مجنّداً في جيش

لا يجرّم القانون العملاء الذين التحقوا بالعدو وانفصلوا عنه قبل أي عمل عدواني


العدو، ولا في مدى أهمية المساعدات التي قدّمها له، ولا في درجة «الوقاحة» التي يتّصف بها هذا العميل، والتي تتمثّل بإصراره على الاستمرار في خدمة العدو رغم وقوع عمل عدواني على دولته. وإن كانت هذه جميعها تشكّل ظروفاً مشدّدة للعقوبة، التي كان يفترض بالمشرّع أن يلحظها، إلا أن المعيار في التجريم يكمن في القصد الجرمي لدى العميل والمتمثّل بنيّة تقديم الولاء للعدو والتعامل معه على حساب الوطن والإضرار بمصالحه. وهذه النية تتحقّق بمجرّد الانتماء إلى جيش العدو بصرف النظر عن الانفصال عنه أو عدمه، وعن توقيت هذا الانفصال إذا ما حصل، سواء وقع في إطار زمني سابق أو لاحق لأي عمل عدواني على لبنان.
وأكثر من ذلك، لا يمكن ربط توافر هذه النية لدى العميل، أو انتفائها، بظرف مادي، متمثل بالانفصال عن جيش العدو، وخاصة أن مثل هذا الظرف قد تحدّده اعتبارات مادية، كانقطاع الاتصال بين العميل والعدو بسبب قوّة قاهرة، أو استغناء العدو عن خدمات العميل، أو غيرها من الأسباب التي لا تمثّل حالة من حالات العدول الطوعي كالندم أو التوبة أو مؤاخذة الذات أو حتّى الخوف من التعرّض للقبض والعقاب. وبالتالي، فإن مثل هذه البواعث، سواء كانت إرادية أو خارجة عن إرادة العميل، وإن كانت تؤدي إلى الانفصال عن العدو، إلا أنها لا تعني بالضرورة زوال نية العميل بالتعامل معه ورغبته بالاستمرار في ذلك.
ثم نصطدم بواقع الحال: فبين ما يفرضه المنطق لجهة ضرورة مساءلة هؤلاء العملاء ومعاقبتهم، وإن توقّفوا عن التعامل مع العدو وانفصلوا عنه، وبين ما يفرضه نص القانون بصيغته الحالية، لا يمكن أن يعتد إلا بما جاء في مضمون النص، وذلك عملاً بمبدأ شرعية (أو قانونية) الجرائم والجزاءات.


تمييز بين «العميل» الأجنبي واللبناني

أضافت المادة 280 عقوبات، وهي الأخيرة في نبذة «الخيانة»، أنه «ينزل منزلة اللبنانيين بالمعنى المقصود في المواد 274 إلى 278 الأجانب الذين لهم في لبنان محل إقامة أو سكن فعلي». وبناءً عليه، فهم يخضعون لأحكام القانون ويتعرّضون بالتالي للعقوبة نفسها التي تنزل باللبنانيين، إذا أقدموا على اقتراف تلك الجرائم. بيد أنه يلاحظ أن المشرّع قد استثنى من حكم المادة 280 صور الجرائم الواردة في المادة 273 عقوبات، بحيث حصر نطاق تطبيقها باللبنانيين فقط. أي بمعنى آخر، استلزم في هذه الحالات أن يكون العميل لبنانياً. ويستتبع ذلك أن حكم النص لا ينطبق على الأجنبي الذي يقيم في لبنان أو له سكن فعلي فيه، وحمل السلاح عليه في صفوف العدو. كما لا ينطبق النص على الأجنبي الذي له محل إقامة أو سكن فعلي في لبنان، وقام أو ساعد في ارتكاب أعمال عدوانية بحق هذا البلد، سواء تمّ ذلك من خلال الانتماء إلى جيش معادٍ أو من دون ذلك.