من كروم قريته الكسروانيّة إلى المسرح الباريسي الذي استوطنه أخيراً، بعدما شهد ولادة «غودو» في الخمسينيات، تبدو طريق مصمّم الأزياء اللبناني مفروشة بفرح طفوليّ غامض. عبرت الحرب بعيداً عن الفتى الذي كان يحلم بأن يكون بنّاءً، فإذا به اليوم رسول «الموضة الجديدة» المتحرّرة من بهرجة الخياطة الراقية
زينب مرعي
«لنُبكرنّ إلى الكروم، لننظر: هل أزهر الكرم؟ هل تفتح القُعال؟ هل نوّر الرمان؟ هنالك أعطيكَ حبي» من وحي هذه الجملة من «سفر نشيد الإنشاد»، تخيّل ربيع كيروز داره. في ذلك البيت العتيق في الجمّيزة، رمانتان على المنضدة. واحدة قرمزيّة، وأخرى نوّرت واستحال لونها ذهباً. وسط الشجر المتدلّي من السقف، ملابس نبت عليها الرمّان. «التفاحة المليئة بالبذور»، علامة معلّقة على الملابس إلى جانب توقيع «ربيع كيروز». الكروم والطبيعة... والرّمان، هي الروح المحرّكة الخفيّة في «دار ربيع كيروز». كلّ شيء هنا أبيض. حتى أشجاره المتدلّية طلاها بالأبيض، لتبرز من بينها ملابس بألوان فاكهة الصيف الناضجة.
ترعرع مصمّم الأزياء اللبناني في أجواء تشبه هدوء محترفه. بين منزل العائلة في «جديدة غزير» (كسروان)، ومنزل جدته في يحشوش المجاورة، بقي كيروز بمنأى عن ضجيج الحرب الأهليّة وويلاتها. «مع أنني من جيل الحرب، إلّا أنني كنت أشعر بأنني أعيش في شرنقة، محاطاً بالعائلة والطبيعة». في هذا العالم الصغير الذي احتضنه حتى سن السادسة عشرة، كانت الطبيعة صاحبة التأثير الأكبر في نفسه، وبقيت المؤثر الأساسي في عمله وتصاميمه لاحقاً.
تمرّس في المهنة عند «ديور» و«شانيل» حيث تعلّم تقنيات القصّ والتنفيذ
اختار من أحراش الطفولة رمّانة لتكون شعاره. عرف أسرار هذه الفاكهة الساحرة وبحث عن رمزيّتها في ثقافات متعدّدة. فهي رمز الخصوبة في الثقافة الأرمنية والفارسيّة، أو رمز المجد والشهرة في الثقافة الصينيّة... لاحقاً، أعطى اسم «رمانتي» لإحدى مجموعاته. التحوّلات التي تطاول شكل هذه الفاكهة ولونها على مرّ الفصول، وقشرتها المحيّرة، وموتها وتجدّدها الدائمين، تمثّل مصدر الإلهام الأكبر لدى كيروز. هو من أولئك الذين يتركون التفاصيل والأشياء البسيطة تؤثر في حياتهم بعمق. رائحة الخبز المنبعثة من مخبز أبيه، طعم أرغفة الصاج من يدي جدّته، وإعداد المؤونة والحرج، ألهمته أكثر من مراقبة والدته تستعد لسهرة مسائيّة. في تصاميم ذاك الرجل البعيد عن الحزن، فيض من السعادة. ألوان زاهية، أحاديّة بمعظمها، نادراً ما يبادر إلى مزجها. كأنه لا يزال رجل الخبز الحاف من دون مقبّلات.
يكشف ربيع لنا أحد أسراره: «لا أحب الزخرفة المجانيّة، ولا الديكور الذي لا طائل تحته. ولا أحب توشيح الألوان بأخرى. أفضّل اللون الواحد. تعلّمت أن أعطي كل شيء حقّه. أنتقي أفضل قماش، أنفّذ عليه قصة مميّزة وهذا يكفيني». الجانب التقني في القصّ والتنفيذ، يمثّل نقطة قوّة في عمله، وقد أخذه من «معلّمي الكار». لقد درس في إحدى أهم مدارس تصميم الأزياء في باريس: L’Ecole de la Chambre Syndicale de la Couture parisienne. واستكمل تدريبه المهني في دار أزياء «ديور» عام 1993، ثم لدى «شانيل» في السنة التالية. تجربة سمحت له بأن يتعرّف إلى طريقة عمل اثنين من أعرق دور الموضة. «هناك دخلت الحياة العمليّة، واختبرت أسلوبين مختلفين في العمل. لكن مدرسة «ديور» كانت أقسى من الناحية التقنيّة».
علاقة ربيع كيروز بباريس التي قصدها مطلع التسعينيات، ليست علاقة مهنيّة فقط. كانت العاصمة الفرنسيّة أول مدينة يكتشفها ابن السادسة عشرة، الآتي لدراسة تصميم الأزياء. صحيح أنّ الحرب الأهليّة لم تترك أثرها المباشر عليه، إلّا أنّها منعته من أن يعيش علاقته بالمدينة في بيروت. كان لا بدّ من الذهاب إلى مدينة الأنوار كي يختبر الحياة المدينيّة، هناك اختبر أيضاً «حياة الرصيف». أشياء صغيرة من التجربة الفرنسيّة تركت بصماتها على عالمه: من شراء الجريدة اليوميّة، إلى مقاهي الرصيف وركوب المترو... يقول إنَّ طعم كل هذه الأشياء علق في أعماله. الحياة العصريّة كما يمكن المرء أن يعيشها في عاصمة أوروبيّة كبرى، ستترك أثرها في تصاميمه. وها هو يعلن القطيعة، ويقرّر الابتعاد عن المنطق التقليدي لـ «الخياطة الراقية» Haute Couture، ليعتمد أسلوباً آخر يراه أكثر ملاءمةً للمرأة العصرية.
بعد باريس ونيويورك ودبي يطلق قريباً أول «بوتيك» له في بيروت
مجموعته الثالثة التي عرضها أخيراً، تأتي ضمن رؤيته «للموضة الجديدة». وتصميمات ربيع كيروز الأخيرة منذ «نور»، و«نور للملابس الجاهزة» وأخيراً «سلوى»، تجمع بين روح «الخياطة الراقية» ونوعيتها من جهة، والطابع العمليّ للملابس الجاهزة من جهة أخرى. إذ يرى المصمم اللبناني الشاب الذي شق طريقه الى العالميّة، أنّ «العالم اليوم يتّجه نحو طلب السرعة والنوعيّة. فلم يعد لدى المرأة ساعات طويلة لتجريب الملابس. إنها تبحث اليوم عن قطعة فريدة وأنيقة، تناسب في الوقت ذاته نمط الحياة السريعة».
إضافةً إلى باريس، أدّت العمارة اللبنانية في أواخر القرن التاسع عشر دورها في رؤية كيروز وأعماله. المصمّم الذي حلم في طفولته بأن بصبح بنّاءً، تجذبه بيوت الفلاحين في الجبل، والبيوت البقاعيّة الطينيّة، ورخام وقرميد البيوت الراقية أيضاً. لكنّه في سن الثانية عشرة، تخلّى عن فكرة العمارة لمصلحة تصميم الأزياء. لم يجرّه شيء مميّز إلى هذا القرار. عرف بكلّ بساطة أنّه سيكبر ليكون مصمم أزياء. لكن عشقه للعمارة اللبنانية، وأشكالها المحدّدة والضوء الذي يتسلل إليها، بات من صميم المخيّلة الإبداعيّة للمصمّم المحترف.
تأخّر اكتشافه لبيروت حتى عام 1995. عندما حطّ كيروز رحاله فيها ليشارك في أول عرض جماعي له
95 SAD Beyrouth، كانت المدينة تنفض عنها رماد الحرب. قرّر حينها أن يترك باريس ليشارك في عمليّة إعادة إحياء عاصمته. هكذا أنشأ أول محترف له في جديدة غزير عام 1998، وفي العام التالي أسس المحترف الذي ما زال يشغله إلى اليوم في حي الجمّيزة، قبل أن يتعرّض الشارع البيروتي القديم للغزوة المحمومة التي نعرفها اليوم.
يمكننا القول إن معموديّة النار تعود إلى عام 2004، حين قدّم أوّل مجموعاته «نساء وفساتين». والعام الماضي، بعدما قطع أشواطاً في عالم الأزياء، عاد ربيع إلى «مدينة الأضواء» ليستوطن «مسرح بابل الصغير» (Petit theatre de Babylone). هذا الصرح التاريخي الذي استضاف العرض الأول لمسرحية صاموئيل بيكيت «في انتظار غودو» عام 1953، بات اليوم يحتضن «دار ربيع كيروز». وكان ربيع قد أطلق مغامرة جديدة في مدينته عام 2008، حين افتتح مع تالا حجّار، في حي الصيفي، بوتيك Starch التي تعرض تصاميم المصممين الشباب الذين يلمس لديهم تباشر الموهبة. هكذا قرّر بعد دخوله دائرة التكريس، أن ينقل خبرته إلى الأجيال الجديدة.
اليوم، بعدما بات لتصاميمه موطئ قدم في باريس، ونيويورك، ولوس أنجليس، والدوحة، ودبي، والكويت، ومدريد... ها هو يستعدّ أخيراً لافتتاح أول «بوتيك» تحمل اسمه في بيروت.


5 تواريخ

1973
الولادة في جديدة غزير (كسروان/ لبنان)

1991
درس تصميم الأزياء في أحد أعرق المعاهد الباريسيّة

1995
شارك في أول عرض جماعي له في بيروت 95 SAD Beyrouth

2009
أطلق داره في باريس، عقداً كاملاً بعد افتتاح محترفه البيروتي في حي الجميزة

2010
يفتتح قريباً أول «بوتيك» يحمل اسمه في بيروت