بقوفا، هي قرية إهدن القديمة التي تنتشر في أرجائها بقايا كنائس القرون الوسطى. كنيسة مار ميتا كانت مجرد ركام، إلا أن قرار الوقف بترميمها دمّر معالمها الأثرية التي تبرز تشققات في الكنيسة
اهدن ــ جوان فرشخ بجالي
مشكلة المباني الأثرية الدينية أنها ملك للأوقاف. ففي بعض الأحيان لا يهتم رجال الدين بتلك المباني إلا لإبراز وجهها الديني، فيتغاضون عن وجهها التاريخي الأثري. في إهدن القديمة، التي يعرفها سكان المنطقة ببقوفا، كانت هناك كنيسة قديمة غطت الأتربة حجارتها، وباتت تبدو كتلٍّ مغطى. ولم يكن أحد يكترث لها. الكل يعدّها «معلماً أثرياً يُقال إنه كنيسة مار ميتا». وكان الموقع بأمان، فلم يدمره ولم يحفره أحد.
لكن، كان للأب أسطفان فرنجية، المسؤول عن الوقف الماروني التابع لرعية زغرتا ـــــ إهدن التي يترأس فرنجية كهنتها، رؤية أخرى تجاه هذا المعلم. فقد قرر، كما يقول، أن «ينظف الكنيسة من الأتربة التي كانت تغطيها ليبرزها ويُدخلها لائحة المواقع الأثرية في إهدن». فبدأت عملية «تنظيف» الكنيسة من الأتربة والحجارة لإبراز جدرانها. وأتت النتيجة تدميراً شبه كامل لموقع أثري يعود تاريخه إلى القرون الوسطى! فبين الأتربة والحجارة المتراكمة، داخل جدران الكنيسة، عثر العمال على قطع من الفخار تعود إلى القرون الوسطى. ويؤكد الأب فرنجية لـ«الأخبار» أن «تلك الفخاريات رُفعت بكل احترام، وهي اليوم محفوظة». فنيّة الأب فرنجية كانت حسنة، لكن المشكلة في التطبيق.
فهو يرى أن الكشف عن المعلم يكفي لمعرفة تاريخه، وهذا كان أساس علم الآثار في القرنين التاسع عشر وبداية القرن العشرين! فمع تطور العلم توصّل العلماء إلى أن عملية كشف المعلم دون العمل الدقيق على الأتربة التي تغطيه، إنما هي عملية تدمير سريعة للمعلومات التي يمكن استقصاؤها. وهذا ما حدث في إهدن، وخصوصاً أن الكنيسة تحوي الكثير من التساؤلات عن شكلها الهندسي.
فالحجارة الخارجيّة للكنيسة ضخمة إلى درجة يمكن التساؤل عن أصلها: هل كانت تمثّل جزءاً من بناء أقدم من الكنيسة، فرفعت وأُعيد استعمالها، أم أن الكنيسة مبنية فوق مبنى أقدم منها؟ أما من الداخل، ففي أسفل الجدار يرتفع نوع من الحَرف المبني من الحجر، كأنه مقعد طويل يلفّ الغرفة التي حُفرت في أرضها حفرة وضعت فيها جرّة. فما دور هذه الجرّة، وإلى أي فترة تعود، ولماذا هي داخل كنيسة؟ أسئلة باتت الإجابة عنها شبه مستحيلة. وتبقى هذه المغايرات تفاصيل صغيرة بالنسبة إلى حنية الكنيسة. فهذا التجويف الرئيسي الذي يؤوي المذبح، وهو قدس الأقداس في الكنائس، قد عزل عن القاعة الأساسية بجدار بُني لاحقاً. وهناك في أرض الحنية رُميت عتبة باب كبيرة حُفر صليب عليها، ما يفتح باب التساؤل واسعاً عمّا إذا كانت الكنيسة قد استُعملت في فترات لاحقة. فهل أُعيد فتح أبواب الكنيسة لأغراض غير دينية، ما يشرح عزل الحنية وإقفالها؟ وإذا حصل ذلك، فممّن، ولا سيما أن أبناء الطائفة المسيحية يقيمون في المنطقة من قرون. أم أن انشقاقاً قد حصل ضمن الكنيسة في القرون الوسطى، واعيد استعمال الكنيسة من أفراد من طائفة أخرى؟ والمعروف هو أن المنطقة عرفت صراعاً طويلاً بين اليعاقبة والموارنة.
أسئلة ستكون الإجابة عنها صعبة جداً الآن بعدما «نظفت» الكنيسة من القطع الأثرية التي رفعت دون أي تسجيل لها.
ويبرر فرنجية قائلاً إنه «أراد أن يعمل على الأرض وأن يحسّن الوضع، لكن المديرية العامة للآثار (التي طلبت منه وقف الأعمال في الموقع) تعرقل كل من يحاول أن يعمل».
الجدير ذكره، أنّ هذه المرة ليست الأولى التي تعترض فيها المديرية العامة للآثار الأعمال الترميمية للأب فرنجية. فقبل ذلك، كان الأب قد قرر ترميم كنيسة مار إلياس في بقوفا، وهي قريبة من كنيسة مار ميتا، وتعود هي الأخرى إلى القرون الوسطى. وكانت المديرية قد أتمت التنقيبات في مار إلياس في السبعينيات من القرن الماضي، وأدرجتها على لائحة الجَرد العام للأبنية الأثرية، فأوقفت أعمال الترميم. وقبل ذلك، حاولت المديرية إيقاف عملية ترميم دير مار يعقوب الذي عثر فيه على هيكل عظمي وقطع فخارية تعود أيضاً إلى القرون الوسطى. لكنها لم تفلح، وبني الدير كما يراه المشرفون على ترميمه.
قد يكون الهدف من هذه المشاريع «الخيرية» إبراز تاريخ إهدن، لكن النتيجة واحدة، هي إتمام تدمير هذه المعالم الأثرية. ولو لم يتسرّع الأب فرنجية في عملية تنظيفه للكنيسة، بل عمل مع أهل الاختصاص على مشروع كامل متكامل يعمل على إتمام حفريات أثرية علمية داخل الكنيسة، ومن ثم يضع خطة ترميمها وتأهيلها للمحافظة عليها بأفضل الطرق، لكان لديه اليوم موقع أثري وديني ليس جديراً بأن يدرج على لائحة أهدن فقط، بل على لائحة لبنان. موقع فريد من نوعه، إذ يشرح كيف يعاد استعمال المراكز الدينية.
كان وقف زغرتا ـــــ إهدن يحوي موقعاً أثرياً فريداً، أما اليوم فبات يحوي موقعاً مدمّراً يجب أن يعمل علماء الآثار على جمع شتات المعلومات لمحاولة شرح ما حصل هناك. يقولون إن التاريخ يعيد نفسه. في الحقيقة هو لا يفعل، لكن البشر هم أنفسهم، ويبدو أن المسؤولين في إهدن لا يتعلمون من الأخطاء السابقة، فيعيدون الكرة.