حروب صغيرة تحدث كل يوم بين «التبّانة» و«جبل محسن» في طرابلس. أبطالها صغار المنطقتين «العدوّتين» منذ عقود، الذين، على ما يبدو، أعجبتهم لعبةُ الكبار ولغتُهم حتى باتوا يردّدون «راقت عند السياسيين بس بيناتنا ما بتروق»
أليسار قبيسي ــ أليسار كرم
تنهال شظايا الزجاج على مجموعة من الأطفال في حي بعل الدراويش في التبانة لتحول دون إكمال مباراة كرة القدم. هذه المرة استحكم بهم أترابهم في حارة الجديدة في جبل محسن، فانطلق «ماتش» من نوع آخر، وشهد خط التماس بين المنطقتين اندلاع حرب مصغّرة يومية، كأنّ المعارك لم ولن تنطفئ كلياً بعد الأحداث الأمنية التي وقعت عام 2008. يعرف الأولاد جيداً متى وكيف يستفزون «الأعداء». يطلقون الشتائم مستهدفين «حماة المنطقة» السياسيين ويلعبون على الوتر الطائفي بتحريك الحساسيات الدينية والمذهبية. هكذا تتكرر كل يوم مناوشات مصغّرة تشبه التمارين على حرب قد تقع، بين منطقة جبل محسن المرتفعة نسبياً والمشرفة على منطقة باب التبانة الملاصقة لها.
عمران الذي يتذكر جيداً يوم كان يتبادل الزيارات مع أصدقائه «تحت» في حي بعل الدراويش في منطقة التبانة، لم يعد يخرج اليوم من حيّه في جبل محسن خوفًا من التعرض لأي مضايقة أو أذى. ابن الأحد عشر عاماً فضّل لعبة الكبار، التي تعرّف إليها منذ عامين، على لعبة كرة القدم والغمّيضة. فلعبة السلاح أقرب إلى الرجولة وقد تمرّن عليها يوم ساعد «المقاتلين» على تنظيف أسلحتهم وتلقيمها فكافأوه بتمرينه على حملها واستخدامها. حفظ أسماء الأسلحة واعتاد تمييز أنواعها من صوت الرصاص ورنينه. يروي همساً يومياته في الحرب مزهوّاً بما حققه «لو ما أنا ساعدت المقاتلين ما كانوا ربحوا». يبتعد عن نظر خاله الذي ينفي إقحام الصغار في المعارك، ويؤكد بقاءهم في البيوت أثناء المعارك، ويشير بيده إلى الثقوب في الجدران شارحاً «هذا الرصاص من عندهم بس نحنا ردّينا». يتابع: «بعض الأبنية كوّنت درعاً يحمي المنطقة هنا، لكن الممرات الفارغة التي بينها مثّلت نافذة يطل منها المقاتلون لإطلاق النار، لذلك ملأوها بأكياس الرمل لإقفالها». تحضر إلى ذهنه صورة المقاتل الذي أُبلغ مقتل أخيه «الشهيد حسن». يأخذ نفساً عميقاً وينطلق بالحديث محاولاً إخفاء انفعاله: «ناداه شخص من البعيد وأخبره أن أخاه استُشهد. فصمت قليلاً ثم ردّ بعبارة: ألله يرحمو، وتابع القنص على الجهة الأخرى. لاحقاً كتب هذا المقاتل على إحدى القذائف: عن روح الشهيد حسن، وأطلقها نحو قتلة أخيه». عمران الذي حفظ جيداً شعارات الانفتاح والتسامح لم يعد يجد مجالاً لتطبيقها، فقد أشبعته الحياة في حارة الجديدة خوفاً من «الناس اللي تحت»، ولوّثت طفولته بالحقد عليهم. لا يتردد في رمي أقرانه في «الحي الثاني» بتهم التعصب والمذهبية وافتعال المشكلات على مدار أيام الأسبوع، لكنه يؤكد بفخر أنه لن يكتفي بأداء دور الكومبارس عندما ستندلع المعارك الجديدة. كأنه يعلم أنّ اندلاعها حتمي، بل، كما قال، سيرقى إلى مرتبة الاحتراف ويتولى مهمّات الرجال في الصف الأول.
مريم، جارة عمران في جبل محسن، تنظر إلى الأمر بموضوعية أكبر، وترفض التعميم. فعلى الرغم من سقوط «الشهيد حسن»، الذي تكنّ له معزّة خاصة، مباشرةً تحت شرفة منزلها وأمام عينيها تصر على أن «الناس مش متل بعض، في مناح ومش مناح عندهن وعنا». لكن مقاومتها للأحكام المسبّقة والأحقاد المتوارثة خضعت لامتحان آخر عندما شاركت في مخيم صيفي جمعها بأبناء التبّانة، من

حفظ عمران أسماء الأسلحة واعتاد تمييز أنواعها من صوت الرصاص
أجل «تطبيع» العلاقة بينهما، حين دخلت في مواجهة مع أحدهم. تروي بحرقة أنه «هو من قال عن شهدائنا: الله يلعنهم. الله لا يرحمهم. وبسببه صار عندي خشية من الآتين من تلك المنطقة للمشاركة في المخيم، لكنني قررت الابتعاد عن العدائيين، واكتفيت بصحبة اللطفاء الذين لا يكنون لنا الكراهية». منطق مريم الذي يشذ عن السائد في منطقتها لم يثمر صداقات في التبّانة، بل اقتصر على علاقات «من بعيد لبعيد» مع رفاق المخيم والمدرسة. فاجتياز الدرج الممتد على أمتار قليلة تفصل بين المنطقتين يكاد يكون مغامرة بالغة الخطورة، ما يبرر إصرار والدها على إبعادها عنه، ومنعها من التوجه إلى التبانة بقسوة لافتة. فضول مريم وتشوقها إلى رؤية «الآخرين» اصطدما بخوف أبيها، الذي لا يختلف عن خوف كل الآباء الذين تورطوا في القتال، وتلطّخت أيدي بعضهم، بدماء «قتلى» لا يستحقّون، في نظرهم، صفة «شهداء». فقد باتت وصمة «ابن المقاتل»، تلاحق الأولاد وتهدد سلامتهم.
أما الدرج، خط التماس الذي يفصل بين المنطقتين، فتحوّل بفعل «ميني معارك» يومية، إلى مساحة مهجورة تملأها النفايات وأكياس الرمل ولا تطأها قدم لا نزولاً ولا صعوداً. الصمت الذي يخيم على الدرج ومحيطه لا يخرقه سوى صراخ الأطفال من على جانبيه وهم يتراشقون بالاتهامات تارةً، وبالزجاج والأحجار تارةً أخرى. فمن يقفون «تحت» في التبانة أو «فوق» في جبل محسن يعيشون مع الحقد وهاجس الانتقام نفسه، ولا يتردّدون في تعيير الآخرين بمذهبهم أو ولائهم السياسي. قد يكون هذا ما أدى إلى «تهجير» أطفال التبانة من مدارس الجبل، وبالعكس، كأنها حملة فرز طائفي للمدارس بين العلويين والسُّنّة. لا ينسى محمد اللكمة التي تلقاها على أنفه من رفيقه في الصف الذي «فوق». ويروي بغضب أنه «بعد العودة إلى مدرستي عند انتهاء أحداث 2008 تكتّل عدد من التلاميذ وأوسعوني ضرباً وعيّروني بكوني سنّياً وأتجرأ على دخول منطقتهم، فقرر والدي ألّا أزور الجبل منذ ذلك الحين». نبرته العالية وحركاته الغاضبة تكشف عن مدى استيعابه الواقع القديم الجديد الذي تعيشه المنطقة منذ عقود، وقد بلغ ذروته بعد عودة محمد إلى كنف منطقته، حيث تركّزت في ذهنه مفاهيم الفصل المذهبي والولاء المطلق للزعماء التقليديين. وعلى الرغم من أن الحياة سلبته ألوان الطفولة وبريقها، ظل ينطق بسذاجة الطفل وبراءته «مش ضروري إطلع لفوق. هون منيح». لا يوافقه صديقه أحمد، الذي رسم ابتسامة خجولة تشي بتشوّقه إلى زيارة أحد رفاق الصف بعدما انقطعت الزيارات بينهما. أما عن سبب التباعد فيقول: «أكل قتلة» عندما زارني آخر مرة، ولم أتمكن من حمايته أو الدفاع عنه «هوي بطّل ينزل وأنا ما عاد إلي قلب إطلع». يعرف الأولاد سبب العداوة ولا يعرفون. يردّدون كلام الكبار عن الاستزلام والتبعية ويحفظون أسماء السياسيين النافذين في المنطقتين. محمد يتساءل «نحنا الحريري بيعيّشنا وميقاتي بيحمينا هني مين عندهن، رفعت عيد؟ شو بيقدر يعمل؟». أما قريبه الواقف جنبه، فيعبّر بهز رأسه مستنكراً، ثم يجول بنظره على الملاعب الفارغة. ملاعب كرة القدم التي رمّمتها جمعية «فرح العطاء» لم تعد تشهد مباراة بين أولاد المنطقتين. فأولاد التبانة يفضلون اللعب في الشارع بفيء الأبنية القديمة المتراصة، تاركين الملاعب التي تحوّل بعضها إلى مكبّ للنفايات، وبعضها الآخر زنّرته الأعلام السوداء والشعارات الدينية وتحوّل إلى مقهى يرتاده السلفيون، وخصوصاً في حي بعل الدقور. غير أن الأولاد لا يخفون الحنين إلى تلك المباريات التي لطالما مثّلت فرصة لإثبات الذات، ويؤكدون استعدادهم لخوضها ولكن بشرط: «بدنا الحكم بيناتنا يكون من برات المنطقتين».


العين الثالثة

في كلّ من التبانة وجبل محسن «عين ثالثة» تراقب الشاردة والواردة، وتلتقط الحركات اليومية المعتادة، وتشعر بأقل تغيير يطرأ على رتابة الحياة. تحفظ الوجوه والأعمار وتعرف من يدخل إلى المنطقة ويخرج منها باسمه. أمّا من يتطاول من فوق الهوّة الفاصلة بينهما، ومن يتجرأ على اجتياز الدّرج فيصبح «مشتَبهاً فيه» خاضعاً للمراقبة من المسؤول الأمني في الحي، حيث «كل مواطن خفير». لا يكتفي المسؤول الأمني بملاحقة الزوّار من بعيد، بل يقترب مشغّلاً كل حواسّه، منصتاً إلى أحاديثهم، عاقداً حاجبيه علّه يفرض وهرته. أما حاجز الجيش اللبناني على مدخل جبل محسن، فلا يقدّم ولا يؤخر بالنسبة إلى الأهالي، الذين يتحدثون عنه كأنه ضيف خفيف ومحبّب، مرحّبين به بـ«أهلا وسهلا بمنطقتنا». يتبجّح «رجال الأمن» المدنيّون بكونهم حُماة الجيش ومدافعين عنه. يزعجهم القول إن الجيش هو الحامي والمرجعية، ولا يستفزّهم الكلام عن السلاح الذي بين أيديهم. «نحن مسلحون أكثر من الجيش، وشو عليه؟ ما دام نحنا اللي عم نحميه!».