يفاجئنا اللبنانيون، أحياناً، بسرعة تبنّيهم الظواهر التي تطرأ على مجتمعم، لكنّ موضة «البلاك بيري» تخطّت كل المقاييس. اجتياح الجهاز الذكي جعل الجميع يمشي ورأسه ملتصق بالـ«بي بي»
نادين كنعان
«البلاك بيري» ليس حديثاً، كما تعتقد الغالبية الساحقة من الناس. فشركة RIM (Research in Motion) أطلقته منذ عام 1999، وانتشر في الأسواق عام 2004، لكنه لم يتحوّل إلى عدوى تفشّت في العالم كلّه إلا عام 2008. يعمل البلاك بيري كمساعد شخصي رقمي، حيث يمكّن الأشخاص من التواصل عبر البريد الإلكتروني وبرامج الدردشة، إضافةً إلى تبادل الملفّات على أنواعها، وتحديد المواقع الجغرافية وتخزين الموسيقى والفيديو وغيرها من الخدمات. لكنّ محبّي هذا الاختراع في لبنان قرّروا حصر استعمالهم له بالدردشة. هذه الموضة جذبت الكثيرين من الشباب وبسرعة هائلة، وهكذا بدأت الحكاية.
«بطّل فيّي عيش بلا البي بي»، تقول سالي (21 عاماً) بحماسة شديدة، لقد أصبح جهازها هو حياتها، ولا تستطيع العيش بدونه، «لازم يكون في حدا عم بحكي معو كل الوقت». سلام (29 عاماً) اشترى الجهاز بدايةً بسبب رحلاته الكثيرة، ولكي يتمكن من متابعة عمله باستمرار، «بس بعدين حسّيت إنو الموضوع انتشر والكل صار يتواصل من خلاله». يعترف سلام بأنه يقضي في الدردشة الافتراضية وقتاً أطول بكثير من ذلك الذي يقضيه في التحدث إلى من هم حوله، فهذا هو أهم استخداماته، وأصلاً «كتير قلال اللي جايبينو للشغل». رافي (26 عاماً) لم يعد يستخدم الكومبيوتر الخاص به، إلّا نادراً، منذ أن انضم إلى عالم البلاك بيري. «لذيذة الفكرة، شي جديد، وأنا بحب إلحق الموضة، مش مضطر كون على كوكب ثاني». يأخذه هذا الهاتف إلى عالم خاص به، يقرر فيه إلى من سيتحدث وكيف. أما ندى (15 عاماً)، فتؤكد أن كل أصدقائها في المدرسة «عندن بي بي»، لأنه «لازم دائماً نكون In، طالما قادرين نحكي مع بعض كل الوقت، ونزبّط مشاريعنا فليش لأ؟»، حتى إنّ موضوع «المسخرة» على الأساتذة، والتنسيق لإتمام المقالب بالأصدقاء أصبح أسهل بكثير بوجود البلاك بيري. وقصّة فارس (23 عاماً) معه فريدة من نوعها، لأن الشاب الذي رفض الهجرة مع أهله إلى الإمارات لإكمال دراسته في لبنان، لم يجد سبيلاً للاتصال بإخوته إلا بواسطة البلاك بيري. «شغل وجامعة ما عندي كثير وقت «للشاتينغ» على الكومبيوتر وهنّي كمان، بس على «البي بي» أسهل، بضل لاقي لحظة أقدر إحكي معهم فيها». قد يكون الجهاز «النجم» ضرورياً في بعض الحالات، إلا أن معظم من يعشقونه اليوم ليسوا رجال أعمال، ولا يضاربون في البورصة. يضع الطبيب النفسي، جورج الشعّار، قضية تعلق الناس بـ«البلاك بيري» في خانة تعلقهم بالهاتف المحمول والإنترنت أيضاً، فهو يختصر الاثنين. واستحواذ البلاك بيري على الاهتمام ينبع من كونه يعطي الأشخاص شعوراً بالقرب من الآخر، ويتيح لهم إمكان التواصل معه في كل زمان ومكان، ليس فقط بالكلام بل بالاتصال الخطي، وهذا ما يصفه الدكتور بالتواصل الوهمي. وبحسب الشعّار، البلاك بيري هو إحدى الوسائل التي تعطي المرء شعوراً بالأمان بات يفتقده كثيراً نتيجة التطورات الاجتماعية التي استتبعها العصر الحديث، ومنها الشعور بالوحدة أو الخوف الدائم من الوقوع فيها. وهو لا ينفي أن يكون اتّباع الموضة الرائجة سبباً آخر لذلك أيضاً، فالإنسان بطبعه يسعى إلى الانتماء إلى المجموعة والانصهار معها. الشعّار، في معرض حديثه عن آثار التعلق بهذا الجهاز، يوضح أن هناك فارقاً كبيراً بين التواصل وبناء علاقة مع الآخر، فالبلاك بيري، كما وسائل الاتصال الأخرى، سهّل الاتصال البعيد لكنه حجّم الاتصال القريب كثيراً، كما أنّه خلق وهماً لدى مستخدميه بأنهم باتوا يتحكمون في كل ما حولهم، في وقت تراجعت فيه علاقاتهم الاجتماعية الفعلية تراجعاً ملحوظاً.
لَمَى، إحدى ضحاياه. «على قد ما كان بدي جيب بلاك بيري، على قد ما كرهته»، تتابع الصبية: «أصبحت ألغي مواعيدي مع أصدقائي بسبب تعلّقهم الزائد به»، فغالباً ما تجد نفسها مرغمةً على تكرار ما تقوله عدة مرات للفت انتباههم. «مرة فكرت ابعت لصديقتي رسالة يمكن كانت ردت عليّ أسرع». من جهة أخرى، يعترف

صرت غار منّو، بتقضي وقت معه أكثر منّي
ياسر (30 عاماً) بأنه ليس من هواة التكنولوجيا أساساً، وبأن عداءه لـ«البلاك بيري» يزداد مع الوقت منذ اقتناء صديقته له. «والله صرت غار منّو... بتقضي وقت معه أكثر منّي!»، فهو يصاب بالهلع كلما تخيّل شكل حياتهما الزوجيّة إذا ما بقي الوضع على حاله! وفي السياق نفسه، ترى نغم (24 عاماً) أنّ ظاهرة البلاك بيري، بالشكل التي هي عليه حالياً، منافية لأبسط أصول الأدب واللياقة الاجتماعية، كما تبعد الفرد عن محيطه تدريجاً إلى أن يجد نفسه معزولاً كلياً. «عم يفقد الاختلاط مع الناس جوهره، الناس عم يقعدو مع بعضها، بس مش عم يحكو». زين (27 عاماً) يذهب أبعد في النقد: فهو يشعر بأن الناس جميعاً تحوّلوا إلى عبيد «لشيء صغير»، بينما يتساءل أحياناً إذا كان مستخدمو البلاك بيري لا يزالوا يجيدون الكلام أصلاً!
ليان (19 عاماً) لديها هواجس من نوع آخر. فهي متأكدة أنّ سلامة تبادل المعلومات عبر هذا الجهاز معدومة تقريباً، وقد تُخترَق بكل سهولة، ومن الضروري بالنسبة إليها أن تُمنع خدمة البلاك بيري في العالم كلّه، وخاصّةً في لبنان. «مش ناقصنا مصائب بهالبلد...التنصت ضارب طنابو... يروحوا يفيقوا قبل ما يصيروا يغتالوا العالم بالبلاك بيري!».


هو أو لا أحد مهما كان الثمن

في بلد يبلغ فيه الحد الأدنى لدخل الفرد 500 ألف ليرة لبنانية، لم يتردّد كثيرون في دفع 40$ شهرياً، تضاف إلى فواتيرهم، لتشغيل الخدمة. والآن أصبح باستطاعة أصحاب البطاقات المدفوعة سلفاً تشغيل الخدمة، لقاء نحو 10$ أسبوعيّاً، من دون أن يضطروا إلى تثبيت خطوطهم. وكان وزير الاتصالات اللبناني، شربل نحاس قد ذكر أن عدد مستخدمي البلاك بيري في لبنان وصل إلى ما يزيد على 60,000، وهو يأخد منحىً تصاعدياً.