مايا ياغييمرّ الخبر على الشاشة الصغيرة مرور الكرام. وقبل أن يمرّ، تبدأ طائرات العدوّ التحليق في ذاكرتي. كنت أركض عند سماع صوت الطيران، فأنا ترعرعت في زوطر الشرقية. زوطر الشرقية، جارة نهر الليطاني، والبلدة التي يظلّ موقعها الاستراتيجي محط استهداف دائم بالنسبة للكيان الصهيوني ذكريات كثيرة ما زالت تحوم. تغيب مع غياب الطيران وتعود مع عودته. كنت أشعر أن الطائرة تلاحقني وأن علي الإسراع للوصول إلى المنزل. انتقام أسجله لتلك الطائرة، ما زال يراود نفسي رغم مرور أكثر من خمس عشرة سنة، لأن هاجس الخوف الذي كان يسيطر على تفكيري حينها، حرمني الكثير من لحظات طفولتي. وقف بيني وبين الأطفال الآخرين عائقاً يمنعني مشاركتهم ضحكاتهم ومزحاتهم.
هم كانوا أجرأ مني واعتادوا على تلك الأصوات الهادرة حتى أصبحت جزءاً من يومياتهم، أما أنا فغالباً ما كنت أصاب نتيجة تعثري بالحصى على طريق المنزل، ولا تزال آثار تلك «الوقعات» ترافق جسدي. لا أدري لما كنت أشعر حينها أن طائرة العدوّ تترك كل الأطفال الذين ألعب معهم لتلاحقني أنا.

لا تزال آثار تلك «الوقعات» ترافق جسدي
لم تكن حرب تموز بمنأى عن تلك الذكريات، آنذاك، أصررت على البقاء في المنزل، لكن لم يستطع خوفي المبطن الاستقرار في داخلي. كان يرسم في كثير من الأحيان علامات غريبة على وجهي: شعور الجبن كان يقلقني، وخصوصاً أمام الأهل: «الآن أنا كبرت ويجب أن أكون قوية». كلمات أدعم فيها نفسي للتغلب على الخوف، إلا أن تلك الطائرة لم تتركني لحالي. تركت الملجأ بعد هدوء خيم من فترة الصباح إلى فترة الظهر، فاستغلت الطائرة لحظة انشغالي بتنظيف المنزل لتقصف منزلاً يقرب من بيتنا كثيراً، وكالعادة لم أعرف كيف عدت إلى حالة السباق والتعثر لأصل إلى الملجأ منقطعة الأنفاس. عادت الطائرة وعادت معها طفولتي.
لا تكف طائرات العدوّ عن التحليق من يوم لآخر، وكأنها تستهدف ذاكرتي فقط. لم أشعر حتى اليوم أني نجحت يوماً بالنيل منها، ولا أدري إن كانت الأيام المقبلة ستفتح لي باباً للتغلب على تلك الطائرة بطريقة ما، لأني على قناعة تامة بأن تسجيل الخروقات الجوية أسهل بكثير من عيشها.