مايا ياغيمثل كل القرى الجنوبية النائية، يبدأ نهار يحمر الشقيف باكراً وينتهي باكراً. يعود المزارعون إلى بيوتهم بعد يوم شاق من العمل في الحقول، ويتجمّع من بقي من شباب لم ينزحوا إلى المدينة في بيت أحدهم أو على مصطبة ما، أو يزورون قرى مجاورة أكثر صخباً، يعاندون الليل. أما في هذه الأيام، فقد خرجت البلدة عن انتظامها. إنها لوثة المونديال. المصطبات لم تعد كافية لسهرة هامسة على ضوء القمر، فالحماسة التي تستتبعها كرة القدم تكره السكون. هكذا، أصبح الشباب يتجمعون في ساحة الحسينية، لمشاهدة المباريات وقضاء سهرات صاخبة تكسر سكون الليل في بلدة لم تعتد السهر: صفارات وتصفيق وأصوات عالية، و«تزريك» بعضهم لبعض. بثّ المونديال الحياة في ليل القرية. قبل ذلك، كان الشباب يهجرون القرية ليلاً و«يهجّون» من سكونها إلى قرى أخرى مجاورة تحتفظ بحيويتها عند هبوط المساء، نظراً إلى أنها تحوي المقاهي والمحال التجارية، وفيها جمهور من «الكزدرجية» لا ينعسون باكراً. ليس الشباب القاطنون في القرية وحدهم من يتسمّرون أمام الشاشة العملاقة في ساحة الحسينية. فأبناء البلدة المقيمون في العاصمة، الذين يعودون إلى قريتهم لقضاء الإجازة الصيفية، يشاركونهم السهر أيضاً. واحتفاءً بعودتهم كما كل عام، ولحثّهم على العودة دائماً إلى قريتهم، كان لا بدّ من مبادرة تحتضن الشباب العائدين صيفاً، وخصوصاً في ظلّ المونديال الذي يشعل حماسة الشباب هذه الفترة. هكذا، أحضر أحد أبناء البلدة، محسن جابر، شاشة كبيرة موصولة بـ«الدش»، ووضعها في الساحة العامة لتنقل مجريات المباريات. ورغم الطبيعة التجارية لتلك المبادرة، إلا أنها نجحت في استقطاب الوافدين، وأصبح التجمع في الساحة حدثاً يومياً لا يفوّته معظم الشباب. فقد حاول جابر، بمحاولته هذه، استغلال مناسبة المونديال لافتتاح «إكسبرس» نارجيلة ومشروبات باردة وساخنة لزيادة دخله، كما يقول. وبعد أن كان وجود الفتيات قد اقتصر في بادئ الأمر على فتاة واحدة، سرعان ما تجاوب سكان القرية جميعاً مع مساحة التسلية والترفيه الجديدة، حتى أصبحت العائلات تتوافد بدورها لقضاء الأمسية، وازداد عدد الفتيات اللواتي أصبح من المسموح لهن البقاء خارج المنزل لساعات متأخرة، بعد أن كان ذلك أمراً محظوراً عليهن.
ليس كل من يشاهد المونديال في هذه الساحة ممن يفهمون شروط لعبة كرة القدم وأصولها. ففيما أصبحت هذه السهرة متنفّساً للتسلية عند كثيرين من الأهالي، يظلّ هناك جمهور «نخبوي» متابع. هؤلاء يجلسون في الصفوف الأمامية وعلامات التفاعل مع سير المباراة بادية على وجوههم، بعضهم من لاعبي كرة القدم في البلدة، وكانوا يقضون أوقاتهم قبل المونديال، وخصوصاً مساءً، في بعض الملاعب الخاصة في مدينة النبطية حيث يمارسون هوايتهم المفضلة. في المقابل، يجد محمد علّيق أن مجريات المونديال لا تهمه كثيراً، ولكنها عادت عليه بالفائدة، لأنه «خففنا مصروف عالجيبة وضهرات بعيدة، وصار فينا نسهر بيحمر، كمان صار عنّا حجة نضهر من البيت»، كما يقول. أما جعفر قاطبي، فلا يجد في هذه السهرات مكسباً سوى أنها تجمعه برفاق وأصحاب لم يرهم منذ زمن. يجلس أبو علي علّيق وعائلته وبناته، والنرجيلة التي لا تفارق يده تعنيه أكثر من المباراة، ويقول «عم نسهر برّات البيت. الكهربا مقطوعة، أحسن ما نام عابكير، منغيّر جَو».